الثابت والمتغير... مرة أخرى
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
توفيق السيف
حين تسمع عبارة «الثابت والمتغير في أحكام الشريعة» فإن المعنى الذي يتبادر إلى ذهنك هو «الدائم والمؤقت». ويقول اللغويون إن التبادر علامة الحقيقة. أول المعاني المتولدة في الذهن هو المعنى الحقيقي للكلمة. وهذه القاعدة معتمدة أيضاً عند دارسي الفقه.
لا بأس بالإشارة إلى أن الفقهاء قيدوا هذه القاعدة، فقالوا إن التبادر المعتبر هو ما يفهمه المختصون، وهم يعنون أنفسهم دون عامة الناس. لكن هذا التقييد لا يضر ما ذكرناه، فالمختصون مثل عامة العقلاء يصرفون مفهوم الثبات والتغيير إلى تأثير الزمان والمكان في موضوع الحكم. أشير أيضاً إلى أن غالب الأحكام المقصودة هنا، تخص التعاملات بين الناس، أي ما يتعلق بالفرد بوصفه عضواً في مجتمع.
ونعني بالزمان والمكان مجموع العناصر المؤثرة في تشكيل موضوع الحكم. فحين نناقش أحكام المعاملات المالية مثلاً، نأخذ بعين الاعتبار مصادر الإنتاج وتكوين تكلفته، ودورة رأس المال ونظام المعيشة... إلخ. ونعلم أن هذه تختلف بين بلد وآخر وبين زمن وآخر.
أشير أيضاً إلى أن مسألة الثبات والتغير لم تناقش إلا نادراً في بحوث الفقه وأصوله. ربما لأنهم اعتبروها تحصيل حاصل، لا يستدعي مزيد بحث. لكنهم يقبلون في العموم بتغير الحكم تبعاً لتغير موضوعه أو بيئة الموضوع. مثل اعتبار النقد وعاءً زكوياً بديلاً عن الوعاء المتعارف في الماضي، أي الذهب والفضة والحيوانات والحبوب، لأن هذه لم تعد وسيلة تبادل ولا مصدر معيشة.
بعد هذا التمهيد أصل للنقطة التي أردت إثارتها هنا، وهي قيمة الحكم السابق، ومعنى أن يكون لدينا حكم شرعي قابل للاستبدال بعد زمن. فالذي يبدو لي أن أصل فكرة الثبات والتغيير، تشير ضمنياً إلى أن بعض أحكام الشريعة مرحلي أو مؤقت. وسبب كونها مؤقتة أنها جاءت للتعامل مع ظرف قائم. فإذا زال هذا الظرف، لم يعد للحكم موضوع ولا حاجة.
من أوضح الأمثلة على هذا، أحكام الرق التي أقرها الشرع زمن الوحي، على نحو يضيق مداخل العبودية ويوسع مخارجها. لكن لسبب ما، لم يتخل المسلمون عن هذا العرف، رغم تعارضه الصريح مع العدل وخلوص العبودية لله وتساوي كافة البشر في هذا.
لكن لو سألت أي فقيه اليوم، عن إمكانية العودة إلى نظام الرق وسبي النساء مثلاً، كما هو مشروح في المدونات الفقهية، لأنكر هذا السؤال كل الإنكار، مع أنه بحسب الفقه التقليدي، أمر مشروع.
إن سبب الإنكار هو أن عرف العقلاء في هذا العصر ما عاد يتقبل ممارسة كهذه. كما أن النظام القانوني في كل بلاد العالم يمنعها. بعبارة أخرى فإن الأحكام الخاصة بالرق لا تعتبر صالحة أو قابلة للتطبيق في هذا الزمان.
لن يحتج أحد بأن إنكار الرق تحريم لحلال الله. مع أنهم يذكرون الأثر المشهور «حلال محمد حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة». لكن الواضح أنهم فهموا إباحة الرق كحكم مرحلي أو مؤقت.
ليس من السهل - وفقاً لمعايير الفقه التقليدي - تقبل إمكانية أن يكون الحكم مرحلياً أو مؤقتاً. لأن أهله يخشون أن يكون مبرراً لتعطيل أو تهميش جانب معتبر من الأحكام المتعلقة بالمعاملات. ولهذا فإني أقتصر على الدعوة للتأمل في هذه المسألة، التي أظنها مفتاحاً لفهم بعض الإشكالات العسيرة في علاقة الشريعة بالحياة المعاصرة.