المغرب..من أجل نقد ذاتي حقيقي للخروج من النفق
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
إدريس الكنبوري
يجتاز المغرب تحولات عميقة على أكثر من صعيد. فمنذ فترة طويلة وحركة المد والجزر قائمة بدون أي مؤشرات للحسم، إذ فيما تعطي بعض المؤشرات انطباعا بحصول حالات التقدم، هناك مؤشرات معادية تدفع إلى الاقتناع بأن هناك ارتدادات إلى الخلف.
ومقابل هذا المناخ السياسي والاجتماعي المتوتر نجد أعراضا غريبة للكسل تخترق النخبة بكل تلويناتها، السياسية والثقافية والاقتصادية. لا أحد قادر على المغامرة بطرح بدائل قابلة للنقاش في المجال العمومي. واليوم يترك الناس الفضاء العام ويفرون إلى مواقع التواصل الاجتماعي، حيث يعيش شعب آخر يتحدث لغة مغايرة.
في بداية الشهر الجاري مرت الذكرى السابعة لدستور 2011، وعندما يستعيد المرء الأجواء التي مر فيها النقاش حول الوثيقة الدستورية إبان الربيع العربي سوف يجد بأن الطموحات كانت كبيرة وقتها.
وبعد سبع سنوات من تلك الثورة الدستورية التي أطلقها القصر تبين، اليوم، أن شروط التقدم لا ترتبط ضرورة بدستور مكتوب، بقدر ما ترتبط بالثقافة السياسية السائدة، وبالعقليات التي يمكنها أن تضع تلك الوثيقة على السكة؛ وفي النهاية، بالنخبة السياسية.
في أي مجتمع يريد أن ينهض، وأن يقف على قدميه، يتطلب الأمر نخبة ذات وعي استباقي قادرة على صياغة مشروع، ولديها القدرات للعب دور الطليعة. لكن الحالة في المغرب مختلفة وغريبة، لأن هناك فجوة واسعة ومذهلة بين تجديد الترسانة القانونية وجمود النخب.
وعندما تكون هناك نخبة تتصف بالجمود وعدم التجديد والابتكار من الصعب أن تكون النصوص، مهما علت، قادرة على إحداث التغيير. إن الأمر أشبه بمن يغير البضاعة كل يوم، لكنه يتعامل مع الوكلاء أنفسهم.
يشكو الكثيرون، اليوم، من انتشار الشعبوية في التفكير، إذا أخذنا الشعبوية على أنها فن إلقاء اللوم على الآخرين، أي تصدير المشكلات. لكن هذه الآفة بدأت قبل عقود طويلة عندما نشأت لدى النخبة السياسية التقليدية ثقافة انتقاد الدولة، فتكرست في الوعي العام معادلة غير متوازنة، هي الدولة الفاسدة والحزب الطيب.
وقد لعب ذلك دورا في إبعاد الشبهة عن النخبة السياسية، التي استفادت بقدر كبير من تحريف الوعي الجماعي. وعلى حين تجري الانتخابات كل أربع سنوات في المغرب ويذهب المواطن إلى صناديق الاقتراع بإرادته، يحرص دائما على الاحتجاج ضد المركز كلما حصلت تجاوزات على الصعيد المحلي، بسبب تلك الثقافة السياسية السلبية، التي زرعت لدى المواطنين شعورا بأن النخبة الحزبية لا تتحمل المسؤولية عن أي مستوى من مستويات التدبير.
يعود ذلك إلى النفاق السياسي الذي يطبع النخبة السياسية في المغرب. فنحن نلاحظ أن هذه النخبة تتسابق في مواسم الانتخابات على المسؤوليات، وتستعمل مختلف وسائل الإقناع المادي والمعنوي، وتصل الخصومات فيما بينها حدا لا مزيد عليه، لكنها في النهاية تستبطن الثقافة السياسية إياها، ثقافة التحلل من المسؤولية والهروب إلى الأمام بإلصاق كل شيء بالدولة، الأمر الذي يجعل السباق على الانتخابات ليس للقيام بالمسؤوليات، بل من أجل الثروة والنفوذ، وهكذا نصل إلى معادلة ثانية: المسؤولية السياسية على كاهل الدولة، والنفوذ لصالح النخبة.
هذه المعادلة هي ما أشار إليه الملك محمد السادس في خطاب العرش العام الماضي، ذلك الخطاب التاريخي، الذي لم يُقرأ بشكل جيد وجدي بسبب تجذر تلك الثقافة، التي أحب تسميتها بثقافة انتقاد الدولة. لقد كان جلالة الملك صريحا وواضحا في تأكيد عدم قناعته بالطريقة التي تمارس بها السياسة في المغرب، وفي عدم ثقته بالنخبة السياسية، وطرح تساؤلات عميقة هي ذاتها التساؤلات التي تخامر الشارع المغربي.
وبعد عام كامل على ذلك الخطاب غير المسبوق لا تزال تلك التساؤلات مطروحة على بساط النقاش: كيف يمكن تجديد التعاقد السياسي بين رجل السياسة والمواطن؟ كيف يمكن الانتقال إلى الوعي بأن رجل السياسة جزء من بنية الدولة ذاتها؟.
يحب الكثير من السياسيين عبارة التعاقد السياسي مع الدولة. هذا تحريف للنقاش مرحليا. إن النقاش الذي يجب خوضه، اليوم، هو النقاش حول التعاقد بين رجل السياسة والمواطن. عندما يتحمل رجل السياسة المسؤولية على الصعيد المحلي والإقليمي والجهوي، تخرج الدولة من الصورة، ويحل هو محلها.
تتحمل الدولة جانبا من المسؤولية في هذه الحالة في عدم إنفاذها للقانون في الحالة التي تحصل فيها تجاوزات وإخلال بالمهام، لكن الأصل الأول هو نزاهة العمل السياسي، الذي يدفع الشخص إلى الركض وراء المسؤولية، أي الضمير السياسي والضمير المهني.
لقد أصبح من المطلوب، اليوم، أكثر من أي وقت مضى ـ وهذا كلام إنشائي ـ القيام بنقد ذاتي لدى النخبة السياسية من أجل تخليق العمل السياسي بما يصب في إعادة الاعتبار إلى القيم الوطنية. إن النزعة التبريرية، التي يتخفى وراءها الكثير من أطياف النخبة في بلادنا، نزعة ترمي إلى تشجيع الكسل وإدامة الوضع الراهن والحفاظ على المكاسب.
لا شرف لدى من ينتقد بيروقراطية الدولة بينما هو يجلس على كرسي المسؤولية، عندما تربح الدولة يربح معها، وعندما تخسر الدولة يربح هو. لا يوجد منتصف طريق في المسؤولية والعمل السياسي، فإما أنك تقوم بما عليك وإما أنك تنسحب.