المهرج العاقل
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
خالد القشطيني
من الشخصيات التي غصت بها بطون الأدب شخصية العاقل المجنون، أو المجنون العاقل. وهي شخصية معروفة لدى سائر الشعوب، وتملأ حكاياتها فولكلور سائر الملل، وكثيراً ما تظهر في عهود المحن والأزمات واختلال الحكم، عندما يتعطل العقل، ويستبعد الفكر، ويضطر العقلاء إلى تصنع الجنون، أو الوقوع به فعلاً. وفي القرون الوسطى، اعتاد ملوك أوروبا على إغناء بلاطهم بشخصية الفول (fool)، وهي كلمة لا يقابلها مقابل في اللغة العربية أو التراث، وترجمها البعض بالمهرج. والمهرج هو الشخص الذي يلتحق بقصور النبلاء، فيلبس ملابس غريبة، ويقوم بتصرفات شاذة، ويعلق على ما يجري حوله من الشؤون بتعليقات بين الحكمة والحمق، والجد والهزل. وقد سخّر شكسبير هذه الشخصية في مسرحياته للتعبير عن حكمياته وطرائفه ومفارقاته البليغة.
ولعل شخصية أبي نواس، كما صورها الأدباء في بلاط هارون الرشيد، تعطي أحسن مقابل لشخصية المهرج. ومن شخصيات القرون الوسطى أيضاً شخصية مجنون القرية، وهو النسخة الشعبية من مهرج البلاط. وإذا كان أبو نواس يمثل شخصية مهرج البلاط، فبهلول يمثل شخصية مهرج القرية في تراثنا العربي. عاش أبو وهيب، بهلول عمرو الصيرفي، في القرن الثاني للهجرة، ورويت عنه حكايات وحكميات جنونية كثيرة.
مر بهلول بسوق البزازين، فرأى قوماً مجتمعين على دكان قد نقب، سألهم: أما تعلمون من فعل هذا؟ قالوا: لا. قال: فإني أعلم. قالوا: خبرنا. قال: أنا جائع. فجاءوه بطعام سني وحلواء، فلما شبع قام ونظر في النقب، ثم قال: هذا عمل لصوص!
هذا ديدن مجنون القرية؛ رجل يسخر جنونه، أو تصنعه الجنون، لكسب قوت يومه. قال علي الرازي: مر بهلول بقوم في أصل شجرة. فقالوا: يا بهلول، أتصعد هذه الشجرة وتأخذ عشرة دراهم؟ قال: نعم. فأعطوه ذلك. فجعلها في كمه، ثم التفت إليهم فقال: هاتوا سلماً! فقالوا: لم يكن هذا في شرطنا. قال: كان في شرطي!
وسئل بهلول عن رجل مات وخلف ابناً وبنتاً وزوجة، ولم يترك شيئًا، فقال: هكذا تكون القسمة: للابن اليتم، وللبنت الثكل، وللزوجة خراب البيت، وما بقي فللعصبة!
وعاصر بهلول مجنونٌ آخر. عرفه القوم باسم عليان المجنون. وذهب هذا مع بهلول، ودخلا على موسى بن المهدي، فقال لعليان: فإيش معنى عليان؟ فقال عليان: فإيش معنى موسى؟ فقال: خذوا بهذا الكلب واسجنوه، فالتفت عليان إلى بهلول وقال له: اسمع هذا. كنا اثنين وصرنا ثلاثة!
قد تبدو هذه القفشات ساذجة وسقيمة، بعد أن ذقنا وتعودنا على فكاهات الغرب. ولا عجب.
بيد أننا سمعنا الكثير من أمثال هذه القفشات والحكايات الطريفة من الحرفيين، كالحلاقين والخياطين والصرافين، في أسواقنا العربية. أتذكر منهم في العراق المدعو عبد الله الخياط. وأرجو أن أتناول الحديث عنهم في فرصة أخرى إن شاء الله.