الكي أول العلاج
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
بكر عويضة
إذ أتابع الأسبوع الماضي محاولة إصلاح حال وضع علاقات قادة حركة «حماس» وحركة «فتح»، في مصر، وجدتني أستحضر القول الشائع بين الناس، منذ زمن قديم: «آخر الدواء الكيّ». بدءاً، يقتضي الواجب توجيه شكرٍ للجهد المصري مُرفق بتذكّر ما بذل شعب وادي النيل من التضحيات لأجل شعب فلسطين، وقضيته العادلة، قبل «حركة الضباط الأحرار»، التي عُرفت لاحقاً باسم «ثورة 23 يوليو (تموز)»، والمُحتفَل بعيدها السادس والستين أول من أمس، وطوال ما تلاها من حروب احتل جيش إسرائيل بفعلها مساحات معتبرة من أرض الكنانة، وعانى المصريون بسببها سنواتٍ عجافاً، ضاق خلالها ظرف العيش حتى بين شرائح الطبقات ذوي الدخول فوق المتوسطة. باختصار، مَنْ ينكر ما قدمت مصر لقضية فلسطين، خصوصاً بين الفلسطينيين أنفسهم، سوف يبدو مثل مُنكر أن الليل يتلوه نهار.
مع ذلك، ومع الإدراك، مسبقاً، أن ما سيلي من القول سوف يثير زوابع غضب بين قادة الحركتين، ومنابرهم الإعلامية، يبقى من الجائز القول لأهل القرار في قاهرة المُعز، ما خلاصته إنكم تنفخون في بئر أنانية قيادات فلسطينية سحيقة بلا قرار، ولست أعني فحسب القادة المعاصرين، بل ذاك وصف ينسحب على أغلب قيادات الفلسطينيين منذ صدور وعد بلفور المشؤوم (1917)، مروراً بأمس بعيد وآخر قريب، وصولاً إلى هذا اليوم، وإلى أن يلد رحم فلسطين قادة يؤمنون بصدق، داخل قلوبهم أولاً، أن وطنهم السليب هو بالفعل فلسطين، وليس فقط لأنهم يقولون ذلك للملأ، بهدف إرضاء أحاسيس بسطاء الناس، سواء بمخيمات غزة والضفة الغربية، أو بأي من منافي الشتات. متى يحدث هذا الميلاد؟ ليس يعلم الغيب سوى عالم الغيب والشهادة، إنما إلى أن يتم، الأرجح أنه سوف يصح مثلٌ آخر دارج على الألسنة: «فالج لا تعالج». أقنوطٌ هو؟ سَمِّه ما شئت، لكن الواضح لكل ذي قلب يسمع وعين تبصر أن «فاقد الشيء لا يعطيه». بكثير أسفٍ، وألمٍ، بوسع كل متابع لتناحر قادة فصائل الفلسطينيين، منذ خواتيم ستينات القرن الماضي، تَبعاً لما يصدر عن كل مَنْ هم تُبَعٌ لهم، الاستنتاج أن هكذا قيادات أعجز مِن التوصل لأي تصالح حقيقي. ليس لأنهم عاجزون بالفعل، رغم شتى الوصايات المفروضة عليهم، بل، بوضوح، لأنهم غير جادين في تحقيق المصالحة حقاً.
أمام هكذا حالة فلسطينية، الكي هو «أول العلاج» وليس آخره. لو أخلص أولئك الذين يبدو أنهم لا يتعبون، ولا يضجرون، ولا يخسرون - وهذه الأصح - من الجلوس إلى طاولات حوار المصالحات، لو أن نيّاتهم خَلُصت حقاً، لبدأوا بكي كل خُراج يفرز قيح نزاعاتهم، ولطهروا خططهم من كل صديد يُملى عليهم من عواصم ليست تعنيها سوى مصالحها، فيما زعيق أطقم منابرها يكيل المديح لأبطال المقاومة الصناديد - وهم كذلك - بينما الكيل بموازين صالح الفلسطينيين يمضي، دائماً، وفق ولاءات محسومة للآخرين، بدءاً بطهران، مروراً بأنقرة، وصولاً إلى دمشق، ومن قبل بغداد وطرابلس، وغيرها.
ها هو السيد روحاني، رئيس جمهورية خامنئي، يعلن الأحد الماضي أن أي حرب تُشن على إيران سوف تكون «أم الحروب». معروف لكل من يفك طلاسم صراعات مراكز النفوذ الإيرانية أن روحاني قرر القفز من سفينة «الاعتدال» وركوب أمواج قاسم سليماني، فقط لأن خُناق النفط بدأ يشتد حول العنق الإيراني، فما الضرر من الزعيق بخيار شمشوني، يلعب بورقة مضيق هرمز، والتهديد بإشعال النار في المنطقة بأكملها؟ يعرف ذلك، أيضاً، قادة الفصائل الفلسطينية المرتبطة، مصلحياً، بمصالح طهران، فهل يعنيهم أن يضعوا صالح الشعب الفلسطيني، راهناً ومستقبلاً، قبل مصالح سادة قُمّ وغيرهم؟
أشك في ذلك. أعرف، مسبقاً مرة ثانية، أن أصواتاً سوف ترتفع وتلوّح بأصبع اتهام مكرر وممجوج: ها أنت تضع جانباً إقرار إسرائيل قانون «الدولة القومية»، الذي يؤسس ليهوديتها، ويمنهج تمييزها العنصري ضد العرب الفلسطينيين، وها أنت تتجاهل إحكام تل أبيب الحصار على قطاع غزة واستمرار عدوانها ضد أبرياء عزّل، وتوجه سهام النقد لقادة هم «رموز المقاومة». ليكن، دع هكذا كلام يُقال، ليس من جديد في الأمر، ولكن وقائع ما يجري منذ عقود، سوف تُفصِح، ولو بعد سنين، عن كل ما مهد الطريق كي تصل القضية الفلسطينية هكذا مفصل، عبر ما جرى من صفقات بيع وشراء باسم فلسطين، ماضيها، وحاضرها، وآلام شعبها، وعدالة قضيتها.