فجيعة انتحار العراقيين.. حالة أم ظاهرة؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
أفرز احتلال العراق ظواهر كثيرة لم يعرفها المجتمع العراقي، من قبل، من بينها ظاهرة الانتحار بسبب السياسات الحكومية، التي سدّت أبواب الأمل أمام الشباب العراقي، بصفة خاصة، إذ يجمع باحثون اجتماعيون على أن أبرز أسباب هذه الظاهرة هو فشل النظام السياسي والطبقة السياسية الحاكمة في حل مشكلات الشباب، وتحقيق أحلامهم في حياة كريمة وآمنة، وحالات اليأس والوضع المعيشي المتهالك، والفقر والبطالة، والعجز عن إعالة الأسرة، وفقدان الأمل في تحسّن الحال.
في أعقاب غزو العراق في 2003 برزت ظواهر كثيرة منها ثراء الطبقة السياسية، إفقار المجتمع العراقي، استئثار الأحزاب والفصائل المسلحة على المشاريع الاستثمارية والأموال، العمالة المستوردة ومحدودية سوق العمل وزيادة نسب البطالة، وهي أسباب مضافة جعلت الشباب العراقي يخرج في تظاهرات، منذ سنة 2011، وحتى اليوم، للمطالبة بتحسين أوضاع البلاد، وقوبلت هذه التظاهرات بالقمع والعنف والقتل.
سواء كانت فجيعة الانتحار في العراق حالة أم ظاهرة فإن استمرار البطالة، التي يعاني منها الشباب العراقي، والتي سببها الأول الفساد الحكومي، سيمنح هذه الحالة أو الظاهرة الحياة
من وجهة نظر علم الاجتماع، فإن ما يحصل في العراق، اليوم، هو جزء من الأعراض السيكولوجية الناجمة عن الصدمة الأيديولوجية والثقافية والاقتصادية لأحزاب الموالاة، وبسبب التجارب المؤلمة للطفولة المعذبة للعراقي منذ 2003، التي وإن زادت من منسوب ثقافة الموت على ثقافة الحياة، لكن الثوار طوعوا ثقافة الموت لاستعادة ثقافة الحياة، التي كانت سائدة قبل الاحتلال، والغريق لا يخاف من البلل، كما قال لي عالم الاجتماع العراقي الدكتور عبدالسلام الطائي، في حديث مطوّل عن هذه الظاهرة.
وكانت حالات الانتحار قد شهدت تزايدا في أوساط الشباب العراقي، جراء فشل الطبقة السياسية الحاكمة في حل مشكلاتهم وتحقيق أحلامهم في حياة كريمة وآمنة، وفق رصد جديد لموقع “مونيتور”. إلا أن الملاحظ أن ظاهرة الانتحار في العراق خفتت، بنحو واضح جدا، بعد انتفاضة الشباب في أكتوبر 2019، ثم عادت لتطل برأسها مجددا، بعد انحسار مساحة الاحتجاجات الشعبية بسبب جائحة كورونا، إذ كشف مكتب المفوض السامي للأمم المتحدة لحقوق الإنسان عن وقوع 298 حالة انتحار في العراق من الأول من يناير حتى 30 أغسطس 2020، لتكون أعلى نسبة مقارنة بسنة 2003.
موقع “مونيتور” أشار إلى أن الأرقام قد تكون أعلى من ذلك بكثير، إذ تحاول بعض العائلات إخفاء الانتحار كسبب للوفاة بسبب الانطباع السلبي لدى المجتمع عنه، في إشارة إلى أن كثيرا من حالات الانتحار يجري تسجيل سبب الوفاة فيها على أنه “موت مفاجئ”.
ما بين ثقافة الحياة، قبل 2003 في العراق وثقافة الموت المهيمنة اليوم، عاش العراقي اضطرابا ثنائي القطب، ما بين قطبي الأمل والألم، ما بين التفاؤل والتشاؤم وما يتوسطهما من حالة “التشاؤل”، فقد خفتت التظاهرات لا لانخفاض الحماس والروح المعنوية، بل بعد أن لبس كورونا جبة سياسية وأصبح سلاحا في الحرب الجرثومية في سوق التظاهرات، كما يرى الدكتور عبدالسلام الطائي.
الواقع، لا يمكن الحديث عن ظاهرة الانتحار في العراق بمعزل عن الظواهر الأخرى التي ظهرت على سطح المجتمع بعد سنة 2003. لكن ما يثير الغرابة والعجب أن المعالجات الحكومية تحدّ من الفعل في مكان ما، وتتركه ليمارس بحرية تامة في مكان آخر.
ولعل مقترح مجلس محافظة بغداد إنشاء حواجز بارتفاع مترين على جسور العاصمة لمنع حالات الانتحار المتزايدة، مثال حيّ على فوضى التشريعات في بلاد كان حمورابي أول المشرعين فيها (حكم من 1792-1750 قبل الميلاد)، مما أثار موجة من الغضب والاستهجان أشعلت مواقع التواصل الاجتماعي، وزوبعة من ردود الفعل في مختلف الأوساط عقب إعلان الخبر.
غرّد عضو الحزب الشيوعي العراقي جاسم الحلفي في حسابه على تويتر، ساخرا من القرار بالقول “بعد تفكير طويل اقترح المسؤولون وضع سياج عالٍ على جسور بغداد للحد من حالات الانتحار، غابت عن بالهم الأسباب الحقيقة، التي تدفع شباب العراق لذلك الفعل، وفي مقدمتها الفساد والمحاصصة وسوء الإدارة والبطالة، التي أنتجت اليأس والإحباط وفقدان الأمل”.
في ظل دولة فاسدة بسلطاتها الثلاث يتحكم بمصير شعبها حكام لم يعالجوا مشكلة واحدة منذ جاؤوا في ركاب المحتل، وأحزاب موالية لطهران، وميليشيات إرهابية مدربة على إشاعة الخراب وإذلال العباد، واقتناص أرواح المواطنين، بل أنتجوا مشكلات أكبر، وجعلوا المشكلة الواحدة تلد مشكلات والكارثة تجر كوارث.
وحسب كتاب “يوم الحساب العسير”، الماثل للطبع حاليا لمؤلفه أستاذ الفلسفة الدكتور عبدالستار الراوي، فإن العراق احتلّ سنة 2018، وفق دراسة أميركية أجراها مركز “غالوب للدراسات الدولية” حول نسب الانتحار وأسبابه، المرتبة الرابعة عالميا بعد كل من تشاد والنيجر وسيراليون، بسبب تفشي “المشاعر السلبية”، التي قد تقود إلى الانتحار.
وتقول مصادر رسمية إن حالات الانتحار في العراق تراجعت منذ انطلاق احتجاجات أكتوبر 2019، حيث رفع المحتجون شعار “نريد وطنا”، في تعبير واضح عن مشاعر الإحباط من هيمنة أحزاب ساقطة وطنيا وميليشيات موالية للخارج على قرار الدولة.
تراكمت العلل وتوالت الأسباب: نفسية واجتماعية واقتصادية، فأفضت إلى خيار نبذ الحياة، والإقدام على الموت، وهو ما يعبر، في مجمله، عن فقدان الحلم الشخصي، وانعدام الأمل بالغد، بعد أن بلغت غائلة البطالة بين الشباب معدلاتها القصوى 35 في المئة، منحدرة بهذه الشريحة الفتية إلى ما تحت خط الفقر المهين، فلم يعد لدى الشاب إلا الهروب إلى مهاوي العدم والردى.
ما يحصل في العراق، اليوم، هو جزء من الأعراض السيكولوجية الناجمة عن الصدمة الأيديولوجية والثقافية والاقتصادية لأحزاب الموالاة، وبسبب التجارب المؤلمة للطفولة المعذبة للعراقي منذ 2003
قال لي الدكتور محمد الشيخلي، مدير المركز العربي للعدالة، إن ظاهرة زيادة الانتحار في العراق ترجع إلى أسباب وعوامل عديدة، وبالتأكيد فإن أي جريمة ترجع إلى أسباب رئيسة يجب توافر إحداها لكي تظهر الجريمة في المجتمع، وهي: أسباب سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية، فإذا ما توفر أحد هذه الأسباب نرى الجريمة في المجتمع، بمعنى أن العلم الجنائي يبحث عن توفر سبب واحد لتظهر الجريمة، ولكن ما بالكم إذا ما توافرت هذه الأسباب كلها في زمن ومكان واحد، بالتأكيد تظهر الجريمة في المجتمع.
وسواء كانت فجيعة الانتحار في العراق حالة أم ظاهرة فإن استمرار البطالة، التي يعاني منها الشباب العراقي، والتي سببها الأول الفساد الحكومي، سيمنح هذه الحالة أو الظاهرة الحياة، لكنّ العراقيين لم يقطعوا الأمل في ثورة شبابهم، التي أيقظت الأمل في صدورهم بإمكانية القضاء على الفساد وتغيير حال العراق وتحريره من أحزاب ولائية جعلت أبناء العراق يحرمون من ثروات بلادهم، فيما تتنعّم بها السلطات الثلاث وطواقمها وأحزابها وميليشياتها، وامتدت المائدة الحرام إلى الولي الفقيه وحاشيته، فضلا عن أن هناك أكثر من مليون وظيفة فضائية يلتهم رواتبها الفاسدون، لو ذهبت لخلق فرص عمل حقيقية للشباب لخفّت ظاهرة البطالة، وربما اختفت، وزالت معها فجيعة الانتحار.