جريدة الجرائد

التجارة الدولية والأمن الغذائي

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

يعتبر حجم التجارة الدولية من أهم مظاهر الحضارة الحديثة، التي بلغت حوالي 20 ترليون دولار أميركي في عام 2019، وقد لعب نمو التجارة الدولية دورًا محوريًا في تعزيز مستوى معيشة الشعوب، لكنه سلاح ذو حدين في مجال الأمن الغذائي، إذ يؤكد ذلك أهمية الاستمرار في إخضاع الموضوع للدراسة عن طريق البحوث والمنتديات العلمية. ومن هذا المنطلق، حرص مركز البحرين للدراسات الاستراتيجية والدولية والطاقة &"دراسات&"، على تخصيص منتداه السنوي لهذا العام لقضية الأمن الغذائي بعنوان &"استراتيجيات تحقيق الأمن الغذائي: التحديات والفرص&"، في الفترة ما بين 21 - 23 يونيو الجاري، حيث يهدف المنتدى إلى مناقشة سبل تحقيق الأمن الغذائي في مملكة البحرين، كما يستعرض تجارب دول الخليج العربي ومنطقة الشرق الأوسط في هذا المجال.

اعتمدت الشعوب في القرون الوسطى بشكل شبه كلي على الزراعة المحلية لتلبية احتياجاتها الغذائية، بسبب تكلفة النقل الباهظة وعدم وجود تكنولوجيا التبريد، ونتيجة لذلك تعرضت الشعوب للمجاعات بسبب تقلبات الطقس والظروف السياسية المختلفة.

أما في التاريخ الحديث، وبعد اختراع المحرك البخاري والتراجع الكبير في تكلفة النقل، انفتح مجال غير مسبوق لنقل السلع الغذائية دوليا، وفي القرن العشرين الميلادي تحديدًا تم تطوير تكنولوجيات متقدمة في مجال التبريد، التي ساهمت في انتشار السلع الغذائية القابلة للتصدير، فأصبح المواطن البريطاني على سبيل المثال قادرا على تناول فاكهة الكيوي من نيوزيلندا، واللحوم من الأرجنتين، والقمح من جنوب أفريقيا.

وفي إطار الأمن الغذائي، كان هذا التطور مهمًا جدًا، حيث إنه مكن الشعوب من توظيف التجارة الدولية كحل جزئي للأزمات الغذائية المحلية، مثل المجاعات المتعلقة بالتقلبات المناخية، وتشكل دول الخليج العربي نموذجا بارزا لهذا المفهوم، حيث تحد بيئتها الصحراوية من إنتاجيتها الزراعية، مما يخلق تحديا كبيرا لتوفير الغذاء بنمط قابل للاستدامة محليا، وبالرغم من تلك الصعوبات فقد سعت دول الخليج العربي إلى التغلب على تلك القيود من خلال استيراد السلع الغذائية من كافة أنحاء العالم، كالأرز من الهند على سبيل المثال.

وتكمن فائدة التجارة الدولية بأنها تسمح لأي دولة إلى تعزيز استهلاكها الغذائي المحلي دون ارتفاع مماثل في إنتاجها المحلي، كما تسمح بتنويع مصادر المواد الغذائية للحد من المخاطر المتعلقة بالاعتماد الحصري على الإنتاج المحلي، وبالتالي ووفق هذا المنظور، تسهم التجارة الدولية في عملية تحقيق الأمن الغذائي.

وبخلاف ما تقدم، فإن اقتصاد السوق قد جعل التجارة الدولية عامل تهديد للأمن الغذائي، فأحد أهم عناصر هذا الاقتصاد هو البحث عن أدنى سعر عند شراء السلع، سعيا لتحقيق أعلى قدر من الأرباح، ونتيجة لذلك، عندما تنفتح الأسواق العالمية، وتتمكن دولة ما من استيراد المواد الغذائية بدلا من إنتاجها محليا، تدفعها معادلات السوق المختلفة نحو المنتج الأقل كلفة على مستوى العالم، حتى وإن تسبب ذلك في تراجع الحصة السوقية لدى المنتجين المحليين &- أو ربما إلى اختفائهم في حال عدم تمكنهم من منافسة المنتجين الدوليين &- مما يقلل من مستوى الأمن الغذائي في تلك الدولة، حيث تصبح رهينة للاستيراد، وقد أثبت تحدي جائحة كورونا أن العوامل الصحية والسياسية التي تقع خارج سيطرة دولة ما، قد تعرض تلك الدولة إلى تقلبات حادة في أسعار المواد الغذائية وفي الكميات المتوفرة.

علاوة على ذلك، فقد اندلعت حروب عدة في التاريخ بسبب دور التجارة الدولية في الأمن الغذائي، فعلى سبيل المثال &- لا الحصر &- نذكر في هذا الصدد حرب القرم التي وقعت في منتصف القرن التاسع عشر الميلادي بين روسيا من جهة والمملكة المتحدة وفرنسا والدولة العثمانية من جهة أخرى، كان سببها الصراع المزمن على منفذ البحر الأسود الاستراتيجي. وخلال الحروب النابليونية في بداية القرن نفسه، فرض الإمبراطور الفرنسي حظرا أوروبيا على التجارة مع المملكة المتحدة، وتسبب ذلك في ارتفاع سعر القمح في إنجلترا بنسبة وقدرها 60% في الفترة ما بين الأعوام 1807 - 1810.

ونظرا لازدواجية التجارة الدولية من ناحية الأمن الغذائي، تبرز حاجة ملحة لدراسة سلاسل الإنتاج الغذائي الدولية بشكل رصين على كل الأصعدة؛ الاقتصادية، والأمنية، والعسكرية، واللوجستية، وغيرها. ولا بد أن يتضمن الحل الأمثل لمعضلة الأمن الغذائي جانب الاستخدام الذكي للتجارة الدولية لإدارة الموارد الغذائية، بحيث يوازن بين الحاجة إلى تنمية الاقتصاد من خلال الحصول على أدنى الأسعار للسلع الغذائية من جهة، والحاجة إلى حماية الاقتصاد من التهديدات الخارجية المتعلقة بتقلبات الأسواق الدولية للسلع الغذائية من جهة أخرى.

لذا تلعب اللقاءات ما بين الخبراء وأصحاب الشأن &- كمنتدى &"دراسات&" السنوي الرابع، الذي يتناول هذا العام مسألة الأمن الغذائي &- دورا مهما في دعم عملية صنع القرار، مع إتاحة الفرصة لاستعراض أفضل الممارسات الدولية، وتبادل الأفكار بين الخبراء العاملين في شتى المجالات، كما يلعب المنتدى دورا إعلاميا هاما بتوعية المجتمع حول أهمية تحقيق الأمن الغذائي.

إن من أهم الدروس المستفادة من خبرة المجتمع الدولي هو الارتباط الوثيق والمصيري بين إمكانية تحقيق الأمن الغذائي، والتنسيق والتعاون بين عدة جهات، شريطة التخطيط الاستراتيجي المنهجي. ويتطلع مركز &"دراسات&" أن يساهم بصورة بناءة في هذا الإطار عن طريق منتداه.


التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف