أميركا تودّع أفغانستان وتترك القلق في الصين وروسيا وإيران والهند وباكستان
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
تتأهّب الدول المجاورة لأفغانستان لتلقي تداعيات الانسحاب الأميركي بعد 20 سنة وتريليوني دولار أُنفِقت على حربٍ فاشلة، انتهت بتلطيخ سمعة الأميركيين بأنهم لا يحسنون الاحتلال ولا الانسحاب، وسيرتهم هي عدم الالتزام مع الحلفاء، بل اللا وفاء. قرار الرئيس الأميركي جو بايدن إتمام سحب القوات الأميركية بحلول 11 أيلول (سبتمبر) المقبل - وهو تاريخ العمل الإرهابي الضخم عام 2011 الذي أدّى الى غزو العراق وملاحقة "طالبان" في أفغانستان وهزيمتها حينذاك - قرار كان لا بد منه، أتى استطراداً لقرار سلفه الرئيس دونالد ترامب الانسحاب.
فلا مفاجأة هناك. رغم ذلك يدبّ الرعب والقلق من عواقب خروج القوات الأميركية من أفغانستان في الدول المجاورة وأبعد، ليس فقط خوفاً من اندلاع الفوضى والانهيار الأمني وتسلّط "طالبان" على الحكم باستبداد ديني متطرّف وقوة السلاح، بل ما يخشاه الجميع أيضاً هو انتعاش الجماعات الإسلامية الأخرى المتطرّفة مثل "داعش" و"القاعدة" للانطلاق من أفغانستان نحو دول آسيا الوسطى وفي الجيرة المباشرة وأبعد. الصين قلقة وهي تجد في الانسحاب الأميركي حفرة، لكنها أيضاً ترى لنفسها هناك فرصة. روسيا لا تريد التورّط مجدّداً في أفغانستان، لكنها لا تريد أن تتلقّى الإرهاب الذي ارتبط بـ"داعش" و"القاعدة"، لا في عقر دارها، ولا في دول آسيا الوسطى مثل تركمانستان وطاجيكستان وكازاخستان وقيرغستان. الدول الأساسية في الجيرة المباشرة، وهي الهند وباكستان وإيران، تتأهّب بأكثر من حلّة وحال لأسباب عدة، منها ما له علاقة بأفغانستان، ومنه ما يقع في خانة العداء المباشر بينها على نسق العداء بين الهند وباكستان. فالجميع كان مرتاحاً عندما قامت الولايات المتحدة، بالوكالة، بمهمّة أثبتت استحالة الانتصار الساحق بها، لكنها حاربت "القاعدة" و"طالبان" احتواءً للإسلام المتطرّف وللإرهاب. تَعِبَ الأميركيون وأدّى بهم الإرهاق الى لملمة استثمارهم الخاسر لطي صفحة الحروب بالنيابة والحروب اللامنتهية للخروج من أفغانستان. ولكن، ليس بلا كلفة بل ربما بمفاجآت مُكلفة آتية.
استضفتُ هذا الأسبوع في الحلقة الافتراضية 39 لقمّة بيروت انستيتيوت في أبو ظبي الممثّل الخاص للمصالحة في أفغانستان في وزارة الخارجية الأميركية السفير الأميركي السابق لدى الأمم المتحدة والعراق وأفغانستان، زلماي خليل زاد. وضمّت الحلقة كلاً من الممثّل الخاص السابق للأمم المتحدة في أفغانستان والعراق واليمن وزير خارجية الجزائر الأسبق الأخضر الإبراهيمي. الوزير البرتغالي الأسبق المُكَلّف ملف أوروبا، والزميل الأول في جامعة رينمين في الصين ومعهد هدسون في واشنطن، برونو ماسياس. ومدير مركز كارنِغي في موسكو، والزميل الباحث السابق في كلية الدفاع في حلف الناتو، ديمتري ترينن.
زلماي خليل زاد قال بصراحة إن "سياستنا تطوّرت وتكيّفت مع الظروف. في البداية اعتقدنا أن الأفغان الذين دعمناهم قد هَزموا "طالبان"، وأن "طالبان" قد اختفوا وأنه ربما كان هناك حل عسكري. ولكن بمرور الوقت، أصبح واضحاً"، تابع خليل زاد، أنه "لا حل عسكرياً، وأن "طالبان" قد أعادت تشكيل نفسها، وأن فرض الحل على "طالبان" لترضى بما نقبله نحن والأفغان الآخرون، لم يكن مُجدِياً".
رأيه هو أنه في ظل ظروف أفغانستان واحتياجاتها، وفي ظل الاحتياجات الدولية والظروف الداخلية "احتكار السلطة من قِبَل "طالبان" لن يؤدّي الى استقرار أفغانستان، ولن يتم قبوله على أنه طبيعي في المستقبل المنظور. وعليهم التكيّف". وعليه "لن يسمَح باستخدام أراضي أفغانستان من الجماعات والأفراد الذين يهدّدون الولايات المتحدة وحلفاءنا". تقديره هو أن دور الجيران سيكون حيويّاً، وأن باكستان والهند وإيران "لديها مصلحة مشتركة في عدم اكتساب "داعش" النفوذ في أفغانستان" وأنه "سترغب الدول الثلاث جميعاً في رؤية الاستقرار عند مستوى واحد في أفغانستان".
الأخضر الإبراهيمي ألقى اللوم على كل المعنيين وقال: "قفز الجميع الى استنتاج مفاده أن "طالبان" من صنع باكستان. وحتى عندما كانوا يسيطرون على 95 في المئة من البلاد، فشل المجتمع الدولي، بما في ذلك الولايات المتحدة، في الاعتراف بهم. وكان هذا خطأً فادحاً". ودعا الى "العودة الى الوراء أكثر وتعلم الدروس"، وقال: "علينا أن نتوقع الأسوأ". واعتبر أن "تاريخ أفغانستان منذ منتصف التسعينات هو المسؤول عن الوضع الذي نعيشه الآن، وليس حوادث 11 سبتمبر وحدها". ورأى أن السلام والحرب في أفغانستان يعتمدان الى حد كبير على الجيران "وعلى وجه الخصوص، إيران وباكستان والهند، التي عليها الاتفاق على أن السلام في أفغانستان يصب في مصلحتها"، وأن على الدول الكبرى الثلاث، الولايات المتحدة والصين وروسيا، أن ترى في السلام حماية لمصالحها.
وحذّر الإبراهيمي من أن "اغتنام الصين وباكستان فرصة الانسحاب الأميركي لتصبحا سيدتي اللعبة في أفغانستان سيكون خطأً فادحاً يرتكبه الصينيون. سيرتكبون الخطأ نفسه الذي ارتكبه السوفيات والولايات المتحدة، وهو، تجاهل حقيقة أن الأفغان يريدون أن يكونوا أسياداً في منزلهم".
روسيا تعلّمت دروسها وهي ليست في وارد العودة العسكرية الى أفغانستان، ولا التدخّل، ولا التورّط في المسألة الأفغانية. "طالبان" بحدّ ذاتها ليست مصدر قلق لموسكو، ولموسكو اتصالات وتفاهمات مع "طالبان" أبرزها تعهّد "طالبان" أن لا هجمات عسكرية ضد روسيا ومصالحها.
ولكن، ما تستثنيه التفاهمات هو قدرة "طالبان" على احتواء حركة المجموعات الإسلامية الأخرى عبر الحدود الأفغانية، واعتبار مشاريع تلك المجموعات خارج مسؤوليتها. ثم هناك تفاهمات ما بين "طالبان" و"داعش" - منها اتفاق لعام 2019 - قوامه ألاّ يزعم تنظيم "داعش" أي سلطة ونفوذ في المسألة الداخلية الأفغانية، في المقابل، لن تقيّد "طالبان" حركة "داعش" من أفغانستان الى الأراضي المجاورة. وبحسب التقديرات، أن لتنظيم "داعش" 3000 مقاتل في 9 قواعد في أفغانستان مليئة بالسلاح والذخيرة.
"داعش" لا يمانع سيطرة "طالبان" في أفغانستان، لا سيّما في ضوء قرارها فرض الشريعة الإسلامية. كل ما يريده تنظيم "داعش" من أفغانستان اليوم هو أن تكون قاعدته الجديدة لغاياته الاستراتيجية في دول آسيا الوسطى، والصين، وبحر قزوين. وبحسب مصادر تراقب تحركات "داعش"، هناك مؤشرات الى حشد المقاتلين من سوريا والعراق وليبيا للتوجّه الى أفغانستان حيث ستكون القاعدة الجديدة على ضوء الانسحاب الأميركي.
الى حد ما، وللسخرية، قد يكون ذلك نبأً جيّداً للمشرق والمغرب العربيين، إذا صدَق قرار انسحاب "داعش" من الجغرافيا العربية توجّهاً الى طاجيكستان، وتركمانستان، وكازاخستان، وقيرغيستان، بقرار استراتيجي.
ثم إن لدى "داعش" رغبة في نشر اللااستقرار في منطقة الأويغور Uyghurs ذات الأكثرية السُنيّة في الصين حيث يعيش المسلمون من عرقية تركيّة. والصين قلقة، ولذلك تهتمّ كثيراً بما يجري داخل أفغانستان، وهي تودّ التنسيق مع إيران لاحتواء "داعش".
إيران تسعى الى نوعٍ من التفاهم مع "طالبان" لأسباب متعدّدة، منها التجارة الكثيفة عبر الحدود، لا سيّما بعدما سيطرت "طالبان" على المعابر الحدودية. وإيران تسعى وراء تعاون "طالبان" لمنع حركة "داعش" وأمثاله عبر الحدود الى الدول المجاورة. "طالبان" تقدّم الوعود بألاّ تخلق مشكلات لجيران أفغانستان، لكن الواقع قد يفرض أمراً آخر.
الهند قلقة من استخدام "داعش" وأخواته قاعدته الجديدة لتأجيج المسلمين في كشمير، وهي قلقة ليس فقط من "طالبان" و"داعش" وأمثالهما، بل قلقها أيضاً هو من باكستان التي تصدّ الهند عن أي مباحثات معنية بأفغانستان.
"أعتقد أن الصين ستُغرى بفكرة بسط نفوذها وسيطرتها عبر باكستان وعلى أفغانستان، حيث هناك موارد معدنية مهمّة للغاية"، قال برونو ماسياس، وتابع: "فالصين في وضع جيّد للغاية لأنها تتمتع بعلاقة مميّزة مع باكستان، ولديها أموال لتنفقها في أفغانستان". وقال أيضاً إنه لا يعتقد أن بوسع "طالبان" السيطرة الكاملة على البلاد، وبالتالي ستقع أفغانستان تحت نفوذ وسيطرة قوى أخرى "بعضها، في اعتقادي، يقف في واجهة المعارضة المباشرة للمصالح الأميركية". وعبّر ماسياس أيضاً من مخاوف أوروبية من تدفّق الهجرة من أفغانستان اليها، ربما بتسهيلات تركيّة، ما سيؤجّج النزاع بين الاتحاد الأوروبي وتركيا.
"طالبان" طالبت تركيا بسحب قواتها من أفغانستان، وهدّدت بقتل الجنود الأتراك، واضعة بذلك الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على المحكّ. إنها عازمة على توطيد قبضتها وتعزيزها على أفغانستان، ولذلك الخوف هو من حتميّة فشل كل تلك المحاولات والكلام عن المصالحة واقتسام السلطة في أفغانستان. الخوف أيضاً هو على مصير المتعاونين مع الولايات المتحدة بما يشابه مصير أولئك في سايغون أثناء محاولة الجلاء من فيتنام.
ديمتري ترينن لفت الى أن خروج الأميركيين بات محسوماً "وعلينا نحن التعاطي مع الفوضى، ومشتقاتها". قال: "كان الناس مبتهجين للهزيمة الجديدة للولايات المتحدة أو الفشل الجديد للسياسة الخارجية الأميركية" لكن كان هناك آخرون "يفكرون في عواقب تلك الهزيمة، والعواقب وخيمة للغاية". واعتبر أن "المشكلة الأساسية بالنسبة الى روسيا ليست "طالبان" أو المجموعات الجهادية أو "داعش" أو الجماعات المماثلة التي تعبر الحدود الى آسيا الوسطى. المشكلة الكبرى هي المخدرات، وما يعنيه مستقبل أفغانستان لتهريب المخدرات". وأقرّ بقلق روسيا من "داعش" لا من "طالبان"، واعتبر أنه "ليس من شأن روسيا أن تهيمن الصين أو أي شخص آخر على أفغانستان". لكنه اعتبر الابتهاج بالهزيمة الأميركية "سطحياً، فهذا هو الزبد على سطح الماء. الشيء الحقيقي هو القلق بشأن ما يمكن البناء عليه".
زلماي خليل زاد يرفض تعبير الهزيمة، ويصرّ على أن الولايات المتحدة تعيد التموضع ولا تهجر المنطقة. تحدّى القول بأن إيران سعيدة بالانسحاب الأميركي من أفغانستان وستوظفه لمصلحتها، لا سيّما أنها تودّ دفع القوات الأميركية خارج العراق، كما تحدّى القول بأن الصين مبتهجة للهزيمة. قال: "لست متأكداً من أن الإيرانيين سعداء أو أن الصينيين سعداء بالانسحاب الأميركي، لأننا كنا نقدّم لهم خدمات مجانية الى حد ما. فمن الواضح أنهم كانوا قلقين بشأن مشكلة الإرهاب - الإيرانيون بالذات من "داعش" - ولقد كانت الولايات المتحدة وحلفاؤها يقاتلون تلك الجماعات الإرهابية في أفغانستان".
تفاؤل خليل زاد "بالإجماع غير العادي" في القلق بين الأميركيين "والصينيين والإيرانيين والروس وآسيا الوسطى" ليكون نقطة التحوّل إيجاباً في أفغانستان، قد يكون من باب التمنيات. إنه متفائل بدور طهران، ويعتقد أن "الإيرانيين سيؤكّدون على تسوية سياسية شاملة للغاية للمجموعات العرقية والجماعات العرقية التي لها روابط بإيران والشيعة". وهذا مؤشر الى أن إدارة بايدن تضع ثقة كبيرة في نيات إيران.
قرار الانسحاب الأميركي مصيري لأفغانستان ربما الى الأسوأ. إنما الإرهاق الأميركي من حروبٍ نيابة عن الآخرين بلا نهاية وبلا مردود وبلا تقدير هو ما بنى عليه الرئيس بايدن. الخوف هو في استعادة المجموعات الإسلامية المتطرّفة زمام المبادرة وإعادة اختراع نفسها بما يضاعف استعباد المرأة وانتهاكحقوق الانسان وبما يجعل إدارة بايدن تقول يوماً: ليتنا كنا نعلم... إنما بعد فوات الأوان.