خطر "البايدنية" على العراق و... تايوان
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
ما ترثه الصين وروسيا نتيجة إقرار الرئيس جو بايدن بفشل أميركا وضعفها يعزّز تموضع كل منهما في المنافسة الجيوسياسية، ويشمل فرزاً جديداً لما يمكن لهما اقتناصه اليوم نتيجة الفرص الذهبية المُتاحة. تايوان ترقص بإغراء في المخيّلة الصينية، والعراق يستعيد وهجه في الذاكرة الروسية. أميركا بايدن لن توفر الغطاء السياسي للانقلابات المحليّة التي عُرِفت بـ"الربيع" وبالثورات الملوّنة، بل إنها ستغضّ النظر عن تجاوزات الحكومات لحقوق الإنسان كي لا تتورّط، بالرغم من تنافي هذا المبدأ مع تعهّداتها الانتخابية.
حلفاء الولايات المتحدة التقليديون سيدقّقون في خياراتهم الضئيلة أمام الانزواء recluse والانعزالية isolationism اللذين قرّرت إدارة بايدن أن يكونا وجه أميركا الجديد، علماً أن إدارة ترامب كانت السبّاقة الى هذه العقيدة. صنّاع القرار في العواصم الأوروبية يدرسون خياراتهم بعدما زجّتهم تطورات أفغانستان في مواجهة الواقع، وأيقظتهم من أحلام شهر عسل أميركي قصير. الحلفاء العرب مرتبكون أمام وضوح الهرولة البايدنية بعيداً عنهم ونحو الجمهورية الإسلامية الإيرانية. حتى إسرائيل، الحليف المدلّل التقليدي لأميركا، لا تثق بأن أميركا بايدن ملتزمة بحمايتها.
اعترف الرئيس جو بايدن - في خطابه هذا الأسبوع بعد حدث أفغانستان المرعب - بأن الولايات المتحدة في عهده ستكون قادرة ومستعدّة فقط للتفاعلية reactive ردّاً على استفزازات تضطر للانجرار اليها. لن تأخذ زمام المبادرة أو الاستمرار في القيادة. أميركا بايدن لن تكون مسؤولة عن الأمن والاستقرار على الصعيد العالمي أو داخل الدول الصديقة، وهذا يشكّل تحوّلاً جذرياً في موقع الولايات المتحدة كدولة عظمى وفي علاقاتها مع حلفائها، كما في مشاريع الدول المنافسة لها، وفي مقدمتها الصين.
أمام تثبيت الانطباع بأن أميركا ضعيفة وغير آبهة بحماية الحلفاء، الصغار منهم والكبار، يرى صنّاع القرار في الصين فرصة فريدة أمامهم على شتّى الصعد. وكما نقل مصدر عن أحد الفاعلين في صنع القرار "في وضع كهذا، يمكننا ببساطة أن نستولي على السلطة take over في تايوان، ولن تتمكّن الولايات المتحدة من أن تفعل شيئاً".
الانزواء الأميركي الذي تتبناه إدارة بايدن في مختلف بقع العالم يفسح أمام الصين مجالاً واسعاً للاختراق والتغلغل استراتيجياً، والاستفادة من موارد طبيعية غنيّة تحتاجها في مشروع "الحزام والطريق" البالغ الأهمية في خططها البعيدة المدى. أفغانستان مثال واحد على اندفاع الصين لملء الفراغ الذي تتركه وراءها الولايات المتحدة، حيث الثروة المعدنية الضخمة.
فما بعد ورطة بايدن في أفغانستان، استنتجت الصين أن الرئيس جو بايدن غير مؤهّل لاتخاذ خطوات حاسمة، وعليه، تستعدّ الصين لملء الفراغ للعب الدور القيادي في إعادة ترتيب السياسة العالمية، ولزيادة حجم وجودها ونفوذها في العالم.
ثم إن الصين اليوم لا تعير الرئيس الأميركي قيمة الشريك أو المنافس الذي يستحق أخذه بجديّة، بعدما أثبت ضعفه وتبعثره في أفغانستان. وبالتالي، يمكن للصين اليوم أن تمارس الضغوط على الرئيس الأميركي وإدارة بايدن برمّتها، لأن صفات التردد والضعف والفشل الأميركي إنما هي في مصلحتها، سواء كانت تفاوض أو تساوم أو تنافس أو تستغل الفرصة لملء الفراغ. إنها هدية بايدنية ثمينة جداً في معادلة المنافسة الأميركية - الصينية التي تقول إدارة بايدن إنها في أعلى قائمة أولوياتها.
روسيا تشكّل أولوية ثانية لدى إدارة بايدن، الى جانب الصين، وهي أيضاً مستفيد أساسي من تذبذب السياسة الخارجية الأميركية wobbly المتهالكة. كلاهما ينظر الى مشكلة استعادة المنظمات الإرهابية مثل "القاعدة" و"داعش" ثقتها وعزمها بأنها مشكلة الولايات المتحدة أكثر مما هي مشكلة الصين أو روسيا، لأن هذه المنظمات في الأساس معادية أولاً لأميركا عالمياً. ثم إن هذه المنظمات هي التي قد تتمكّن من تدمير كامل خطّة بايدن القائمة على التراجع من دول كأفغانستان وسيلة لحماية أميركا ومصالحها، والكف عن خوض الحروب نيابة عن الآخرين وتورّطه. فماذا ستفعل الآن إدارة بايدن إذا انطلقت عمليات "القاعدة" و"داعش" من أفغانستان أو العراق نحو الأراضي الأميركية، بعد أن تكون القوات الأميركية قد انسحبت منها ولم يبق من خيار سوى العمليات الجويّة المعقّدة وغير المجدية بمفردها في نهاية المطاف؟
انحسار مسؤولية الولايات المتحدة في معادلة الأمن والاستقرار العالمية يعني أن قدراتها في التأثير وصوغ التوجهات ستكون محدودة، وستنعكس في حل روسيا محل الولايات المتحدة في مواقع استراتيجية، كالعراق. وبحسب المصادر الروسية المطّلعة على صنع القرار، تعتزم روسيا أن توسّع رقعة نفوذها الى خارج سوريا باتجاه العراق بالدرجة الأولى. قرار الدبلوماسية الروسية هو أن تحالفها مع إيران في كل من سوريا والعراق يضع الكرملين في موقع مميّز في منطقة الشرق الأوسط، كما في إطار العلاقة الأميركية - الروسية.
فموسكو تجد لنفسها فرصة تاريخية أمام الدور الأميركي المتهادي في المنطقة، وأمام فشلٍ وضعفٍ أوروبي في لعب دور القيادة، كما أثبتت زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الأخيرة للعراق. العراق مهم للغاية لدى موسكو استراتيجياً، ونفطياً، وكبوابة رئيسية الى سوريا. صنّاع القرار في الرئاسة الروسية عقدوا العزم على الشراكة الروسية - الإيرانية التحالفية ميدانياً واستراتيجياً بغض النظر عن رضا أو عدم رضا الأصدقاء الخليجيين العرب. وكما قال روسي مخضرم في هذا الملف اشترط عدم ذكر اسمه "إن التعاون الوثيق مع إيران هو من طبيعة الأحوال، وعلى الدول الخليجية العربية أن تقبل وتتأقلم، سواء أعجبها ذلك أو لم يعجبها".
روسيا مرتاحة أيضاً لتأثير الفشل الأميركي - الأوروبي الذريع في أفغانستان، ليس فقط على العلاقة بين أطراف حلف شمال الأطلسي (ناتو)، بل كذلك على الوزن الأوروبي برمّته، لا سيّما لجهة الدور الذي ظنّت العواصم الأوروبية أن بوسعها لعبه إزاء روسيا. فقبل أفغانستان، اعتقدت أوروبا أن محوريّة دورها مع إدارة بايدن جعلت منها لاعباً دولياً أساسياً، فعرضت عضلاتها بزخم أميركي تجاه الصين وروسيا. اليوم، ترى موسكو أن الأوروبيين ما بعد أفغانستان فاشلون وخاسرون ومبعثرون بلا تأثير أو فائدة. بل إن الرغبة أو الاستعداد لدخول أوروبا في ائتلافات coalitions مع أميركا انحسر، الأمر الذي قد ترحّب به عواصم أوروبية لما يوفّر عليها من إنفاق عسكري، لكنه في الوقت ذاته أمر يسكب الماء البارد على طموحات أوروبية برزت أثناء شهر العسل القصير مع الرئيس بايدن ووزير خارجيته أنطوني بلينكن.
لعل إحياء الاتفاقية النووية مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية سيكون قصة النجاح الوحيدة التي ستتباهى بها الدول الأوروبية التي مثّلت وتمثّل المصالح الإيرانية في مفاوضات فيينا، وتدفع بالدبلوماسية الأميركية نحو الرضوخ لإملاءات وابتزاز الدبلوماسية الإيرانية بطاقمها الجديد بعد انتخاب إبراهيم رئيسي رئيساً.
جو بايدن سيكون خاسراً في مفاوضات فيينا، سواء رضخ للابتزاز أم رفض الانصياع للضغوط الإيرانية - الأوروبية. فطهران تحصد ما استثمرته إدارة بايدن في أفغانستان، كما في ما تنوي استثماره في العراق بانسحابها منه. فهناك في العراق تتربّص إيران بالولايات المتحدة. وهناك في العراق ستتحوّل العلاقة التحالفية الروسية - الإيرانية ميدانياً في سوريا الى تحالف روسي - إيراني نوعي بامتياز، فيما تهرول إدارة بايدن باستراتيجية الهروب المتبعثرة.
فلقد قرّر الرئيس الأميركي الرقم 46 أن تقليص أميركا يعني تهدئة أميركا، وأن انكماش الولايات المتحدة سيحميها. هذه مغامرة ضخمة لجهة عظمة الولايات المتحدة الأميركية. لكن الأخطر هو أن هذا الانكماش والتراجع قد يضع أميركا تحت رحمة الإرهابيين، وهناك من يتخوّف كثيراً من اقتراب موعد مرور 20 سنة على إرهاب 11 أيلول الأسبوع المقبل. فإنهاء الحروب الخارجية لا يأتي بقرار متسرّع، بل باستراتيجية خروج لم تكن أبداً واضحة لا في أداء رئاسة بايدن، ولا في رؤيته المعقّدة.
المؤسسة العسكرية الأميركية في ذهول، حسبما يبدو، وهي في حاجة الى بعض الوقت لاستيعاب كارثة أفغانستان أوّلاً، ثم للتخطيط الضروري لاستراتيجية الخروج من العراق. فهذه المؤسسة تنفّذ أوامر الرئيس الأميركي، لكن هذه ليست خياراتها ولا هي فخورة بانحسار الولايات المتحدة الأميركية عالمياً ولا بسمعة تخلّيها عن حلفائها.
الرئيس بايدن، الرقم 46، ما زال في عين العاصفة، لا سيّما إذا لم يغيّر رأيه ويتراجع عن قرار الانسحاب من العراق. فهناك في العراق مصيدة مصيرية ينصبها له ذلك "الكوكتيل" القديم - الجديد الذي يضم إيران و"داعش" معاً، وهناك في العراق موقع انزلاق آخر ما تبقّى من الجديّة الأميركية. وهناك أيضاً... تايوان.