جريدة الجرائد

قيس سعيّد وسياسة الحديد البارد

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

صدم الرئيس التونسي الطبقة السياسية في بلاده بالقرارات التي اتخذها يوم 25 يوليو الماضي. كانت المفاجأة بمثابة الصاعقة التي أحدث نزولها دويا هائلا في الحياة السياسية.

بضربة واحدة تخلّص من خصمين شكلا عائقا مزدوجا أمام قدرة الدولة على العمل. رئيس الوزراء هشام المشيشي الذي أُقيل من منصبه وراشد الغنوشي الذي صار من غير وظيفة رسمية بعد أن تم تجميد عمل مجلس النواب وهو رئيسه.

كان متوقعا من سعيّد أن يتبع قراراته بقرارات لاحقة ترسخ نهجا سياسيا مختلفا عن ذلك النهج الذي كان متبعا في السابق وكانت الفوضى من أهم سماته، غير أن كل ما صدر من الرئاسة التونسية من قرارات وقع على الهامش ولم يأخذ طريقه في اتجاه المركز.

وإذا كان الرئيس التونسي قد حظي بدعم شرائح عريضة من الشعب بالإضافة إلى مؤسسات المجتمع المدني، فإن دولا مهمة في الغرب بدأت تفقد صبرها بعد أن كانت مضطرة لاتخاذ مواقف محايدة من الوضع السياسي الجديد.

ذلك ما أفصحت عنه زيارة الوفد الأميركي الذي التقى الرئيس سعيّد وعبّر عن قلقه في ما يتصل بتعليق الحياة الديمقراطية التي يعول عليها الأميركان كثيرا من جهة اهتمامهم بمستقبل حركة النهضة، كونها أحد فروع التنظيم العالمي للإخوان المسلمين.

صار واضحا أن الرئيس ليس في عجلة من أمره، بالرغم من أن الأوضاع الاقتصادية في تونس لا تتحمّل أي نوع من البطء. فالوقت كلّه قد استهلكته حركة النهضة في مغامرات، كان الغرض منها الانفراد بالحكم ومن ثم تطبيق المبادئ الإخوانية بما يضمن إغلاق الباب أمام أي تحول ديمقراطي حقيقي.

ما حدث كان خطوة عظيمة على مستوى ما تجلى من حقائق، كان الإخوانيون قد غطوها ببريق من شرعية زائفة. فالتحول السياسي الخطير الذي عاشته تونس كان في أعظم تأثيراته موجها ضد حركة النهضة التي استولت على عشر سنوات ضائعة من زمن الشعب التونسي، غير أن تونس لم تشهد اعتراضا شعبيا يكون بمثابة التعبير عن القوة الكامنة التي تدافع عن الغنوشي وجماعته.

التونسيون يتمنون لو أن رئيسهم يملك صلاحية إزالة كل الأحزاب التي شاركت في الحكم عبر السنوات العشر الماضية. تلك كانت سنوات الخراب

لم يقف أحد مع النهضة في محنتها. لقد جس قيس سعيد نبض الشعب وكانت ضربته مثالية وهو حرّ في ضبط توقيتاته وليس من الإنصاف أن يتم التقليل من قيمة الاتصال اليومي بينه وبين الجمهور العادي ليوصف بالشعبوية التي صارت كما لو أنها سُبة.

قيس سعيّد الذي يتكلم العربية الفصحى هو رئيس يلذّ له أن يتحدى في الشارع. تلك كلفة مضاعفة. لم تقف لغته بينه وبين الشعب. هناك تفاهم، قائم في حقيقته على كراهية الطبقة السياسية كلها وليس حركة النهضة وحدها.

يتمنى التونسيون لو أن رئيسهم يملك صلاحية إزالة كل الأحزاب التي شاركت في الحكم عبر السنوات العشر الماضية. وهي سنوات الخراب التي سمحت لشخص مثل المنصف المرزوقي أن يكون رئيسا.

ارتكب الشعب التونسي تحت مظلة الديمقراطية أخطاء شنيعة صار على قيس سعيد اليوم أن يتداركها. غير أن طريقة تعامله مع الوقت قد أحدثت كثيرا من سوء الفهم، بحيث صار بعض المتحمسين لقراراته يضعون أيديهم على قلوبهم خشية أن ينفد الوقت الافتراضي للتغيير ولا يضع الرئيس الأمور في نصابها الحقيقي من أجل رؤية صورة تونس التي تنهض نافضة عنها موروث سنوات حكم النهضة العصيبة.

“كان على الرئيس أن يضرب الحديد وهو ساخن”، ذلك ما يقوله الكثيرون. أما وقد ترك الحديد يبرد فإن ذلك يعني أن هناك فلسفة أخرى يمكن أن يجد الرئيس فيها منهجا لتنقية الواقع التونسي من شوائبه وهو ما يستدعي الكثير من الصبر والتحمل. فهل تونس مستعدة لذلك؟

شهدت تونس خلال أزمة كورونا انهيار مجالي السياحة والزراعة وهما عصبا الحياة. ذلك يعني أن الحياة الاقتصادية قد بلغت الهاوية في بلد صغير مثل تونس. غير أن ذلك الانهيار كان بمثابة الرسالة الضمنية التي انطوت عليها عشر سنوات من التحارب الحزبي الذي كانت حركة النهضة تقف على قمته.

ما لم ينته ذلك التحارب فإن حياة ديمقراطية صحيحة لن تقوم لها قائمة في تونس. لذلك فإن الخوف على الديمقراطية الذي عبّر عنه الوفد الأميركي ما هو إلا حجة باطلة يُراد من خلالها الإيحاء بضرورة عودة حركة النهضة إلى ممارسة دور قيادي في الحياة السياسية.

وكما يبدو فإن الرئيس التونسي وهو يتبع سياسة الحديد البارد صار على يقين من أن ما شهدته تونس قبل 25 يوليو 2021 سيكون جزءا من الماضي بكل أحزابه وكتله وتحالفاته السياسية. ذلك ما يشجعه على النظر ببرود إلى ما يحدث، مؤمنا بأن ما سيفعله سيخلق وقته المناسب.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف