جريدة الجرائد

"اللعنة" التي جرّها عهد عون على نفسه وعلى لبنان

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

قبل أيّام، كنتُ في مجلس يضم شخصين آخرين. الأوّل معارض والثاني مقرّب من رئيس الجمهورية ميشال عون. بطبيعة الحال، تميّز الحوار بفترات عاصفة، خصوصاً عندما كان يتطرّق الى تحديد المسؤوليات عمّا آلت إليه أوضاع لبنان، ولكنّه بقي مضبوطاً بسلوك راق.

في هذه الجلسة، على الرغم من "انحيازي"، اخترتُ تعطيل اللسان وتقوية الأُذنين. بقيت الحال كذلك، إلى أن طرح الشخص المقرّب من رئيس الجمهورية سؤالاً استفزّني: "ماذا يجب أن نقدّم لحزب الله؟".

في البداية، حسبتُ أنّ سؤاله قد التبس عليّ، فطلبتُ منه أن يتكرّم ويكرّر سؤاله، فتبيّن لي أنّ أذنيّ لم تخطئا.

وقد استأذنت الشخص الآخر الموجود في تلك الجلسة، وتولّيتُ أنا الرد على هذا السؤال. خلاصة ما نطقتُ به يمكن فهمها من إصراري على وجوب إعادة صياغة السؤال، ليكون على الشكل الآتي: "ماذا يجب أن يقدّم "حزب الله" لنا، بعدما سطا على كل مقوّمات الدولة؟".

بناءً على هذه الجلسة، سكنتني فكرة توجيه رسالة الى الرئيس ميشال عون، كالهاجس، ولكنّ أصدقائي ومعارفي حاولوا إقناعي بأن أمتنع عن ذلك، ولديهم في ذلك أسباب وجيهة، فما سوف أكتبه يفترض أن يكون رئيس الجمهورية على معرفة أدق منّي به، ولو أنّ الكلمة التي تصل إلى عينيه، يمكن أن تعدّل في سلوكه، لما كان لبنان في الجحيم الذي هو فيه، ناهيك عن أنّ مهمة الكاتب السياسي لا تكون في مخاطبة المسؤول بل في إنارة الزوايا المظلمة ليراها الرأي العام.

هذه الأسباب بدت لي وجيهة جداً، فليس مثل الرئيس عون من يدرك أنّ موقع رئاسة الجمهورية في عهده تحوّل إلى "شرّابة خرج"، وأنّ "العجز الشامل" حلّ مكان شعارات "الرئيس القوي"، وأنّ السلطات والمؤسسات الدستورية انهارت، وأنّه بدل إنشاء "أكاديمية الإنسان للتلاقي والحوار" جرى إنشاء "أكاديمية لبنان للتباعد والنقار"، وبدل تطوير البلاد تمّ تهديمها، وبدل أن يصحّح العلاقات مع الدول "الشقيقة والصديقة" تركها تنهار، وبدل أن يرفعه المنصب الرفيع الى مصاف الكبار الذين طالما حلم أن يكون واحداً منهم، رماه في لعنة الحاضر قبل لعنة التاريخ.

وكل ذلك حصل، لأنّ الرئيس ميشال عون، منذ اللحظة الأولى التي دخل فيها القصر الجمهوري، كان يطرح على نفسه وعلى المحيطين به السؤال نفسه الذي طرحه الشخص المقرّب منه: "ماذا يمكننا أن نقدّم لحزب الله؟".

ويعود هذا السؤال الذي لا ينفك يتكرّر إلى أنّ عون والمقرّبين منه والمحسوبين عليه ينسبون فضل الوصول الى رئاسة الجمهورية و"منتفعاتها" الى "حزب الله"، بناءً على اتفاق ضمني بين الطرفين يقوم على معادلة أصبحت واضحة للجميع: يأخذ عون رئاسة الجمهورية ويأخذ "حزب الله" الجمهورية.

في السنوات الخمس التي انقضت من ولاية عون، ترسّخت الحقيقة الآتية: "حزب الله" يتصرّف بالاستقلال عن الدولة، ولكن الدولة لا تتصرّف بالاستقلال عن "حزب الله".

في هذه السنوات التي شهدت السقوط المدوّي للدولة اللبنانية، أخذ "حزب الله" كلّ ما يريده: حروبه في الخارج، معابره غير النظامية، تسويق النموذج الإيراني، إبعاد لبنان عن هويته التاريخية، إلحاق لبنان بـ"محور الممانعة"، تحويل البلاد الى منصة عدوان على دول تربط لبنان بها مصالح اقتصادية استراتيجية، جعل المسؤولين اللبنانيين في الخارج مرجعيات تعد بما لا يمكنها الإيفاء به، تدمير ما تبقى "مقاوماً" في القضاء اللبناني، ومحاولة "تطويع" ما بقي "مؤسساتياً" في الجيش اللبناني.

في هذه السنوات "العونية"، لم يعد في لبنان ما يمكنه أن يمنحه لـ"حزب الله". لقد سطا على كل شيء.

وبدل أن يتّعظ عون والمقرّبون منه والمحسوبون عليه، من تجربة كثيرين سبقوهم، على غرار الرئيسين السابقين أميل لحود وسليم الحص، أمعنوا في الغرق بالمسار نفسه. لم يفهموا ما سبق أن قاله لهم الأجداد الحكماء، بكلمات بسيطة وبصور من الواقع اليوميّ: "يأكلك لحمة ويرميك عظمة"، و"يعصرك حامضاً ويرميك قشرة".

والإمعان "العوني" في تسليم كل "شاردة وواردة" في لبنان إلى "حزب الله"، ليس وليد خوف، ولا ينبع من حرص، بل هو وليد هذا التمادي في عشق السلطة.

لم يكن عون قد اعتاد بعد على القصر الجمهوري في بعبدا، حتى تكلّم عن طموحه في أن يتمكّن، في نهاية ولايته، من إيصال "الشخص المناسب" الى رئاسة الجمهورية. في ذاك اليوم، فتح عون معركة صهره جبران باسيل الذي اعتمد فيها أسلوب عون نفسه: استرضاء "حزب الله".

وعليه، لقد تحوّل عهد عون إلى عهد طمأنة "حزب الله" إلى أنّه وصهره وحزبه أفضل من يمكنه اعتمادهم في لبنان.

وهذا يعني أنّ السؤال الذي طرحه، في مجلسنا، الشخص المقرّب من عون، لا ينطلق من "هاجس إنقاذي" بل من "هاجس مصلحي"، إذ إنّ هذه الجماعة السياسية تخشى مع دخول العهد سنته الأخيرة أن تكون قد أصبحت، بنظر "حزب الله"، "بلا عازة"، وقد ساءت سمعتها المحلية والعربية والدولية، فيتم التضحية بها لمصلحة جماعة سياسية أخرى تملك ما لم يعد "التيار الوطني الحر" يملكه.

لو كتبتُ الرسالة الى عون، لكنتُ سأركز على فكرة مركزية: "دعِ اللبنانيين، بعد طول عمر، يترحّمون عليك، وكُنْ رائداً لهؤلاء الذين يقولون لحزب الله: كفى!".

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف