هل تصلح الانتخابات ما أفسده القذافي والسلاح في ليبيا؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
أهم ما خلفته الانتفاضات السريعة في كل من تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا، هو تشرذم المشهد السياسي في ظل تعددية حزبية مشوهة وبروز فاعل رئيسي يتمثل في جماعات "الإسلام السياسي" التي برزت كتيارات أكثر تنظيماً قياساً إلى باقي القوى اليسارية والليبرالية، لذلك وبصفة تكاد تكون عامة، نجدها قد استعجلت الدخول في اللعبة الانتخابية قبل التوافق على طبيعة الأنظمة السياسية الجديدة، وفضلت في مرحلة انتقالية دقيقة، أن تزج ببلدانها وشعوبها في أتون "ديموقراطية" تنافسية في بنية سياسية واجتماعية لم تعتد على المنافسة الديموقراطية، علماً أن القضايا المرتبطة ببناء الأنظمة الجديدة كان من المفروض أن تتم بنوع من التوافق الوطني، لأن هذا التوافق هو طوق النجاة الوحيد لتأمين الاستقرار الكفيل وحده بإخراج تلك البلدان من أزماتها الاقتصادية والاجتماعية التي تكرست إلى اليوم، إذ يعلم الجميع أن الفقر والتهميش والبطالة والامتهان الممنهج للكرامة، كانت هي الدوافع القوية وراء الانتفاضات الشعبية، أكثر منها مسألة إسقاط الاستبداد السياسي الذي كان يشغل النخب بصفة خاصة، لهذا شكل التسرع في إجراء انتخابات المؤسسات التشريعية ومؤسسة الرئاسة.
مثلاً في مصر، ضربة قاضية للاستقرار، لأن من فازوا في الانتخابات رفضوا قبول واقع أن بلدانهم تجتاز صحراء التحول السياسي، وهو ما يستوجب إشراك الجميع لا الانفراد بالسلطة وكأنها غنيمة حرب، والنتائج يعرفها الجميع اليوم، فليس هناك بلد واحد من بلدان ما يسمى بالربيع العربي، استطاع أن يحقق طموحات الشعوب التي خرجت في لحظة من لحظات اليأس والأمل تحمل أرواحها فداء لغد أفضل، فسوريا تحولت إلى مذبحة كبيرة أثبت فيها نظام الأسد بدعم روسي استراتيجي، أنه رقم أساسي في أي معادلة تهم مستقبل سوريا، ومصر توجد بين حضن الجيش وفزاعة "الإخوان"، وتونس استنجدت بأقران بورقيبة لتحقيق أهداف ثورة قادها الشباب ثم جاء رئيس من خارج النسق السياسي الذي أفرز مرحلة ما بعد بن علي، وها هو منذ 25 تموز (يوليو) الماضي يقود عملية تغيير جذرية للنظام السياسي خارج الدستور وخارج المؤسسات...، أما اليمن السعيد فصار يمنين تتهدد أهله المجاعة والأوبئة أكثر من الحرب، أما ليبيا فقد خرجت من ديكتاتورية القذافي إلى جحيم الميليشيات، لتعود إلى ثنائية بنغازي وطرابلس وتعيش اليوم على وقع انقسامات ربما تكون الأخطر في تاريخ الصراع منذ 2011، وذلك لمناسبة انتخابات 24 كانون الأول (ديسمبر) القادم.
ليبيا التي لم تستقر إلى اليوم تعد إحدى ثلاث دول الأكثر تقدماً في مؤشر الدولة الفاشلة سنة 2020 بحسب المؤشر العالمي لقياس الدول الفاشلة FSI المعتمد من صندوق السلام FFP، وذلك إلى جانب كل من تشيلي وموزامبيق، هذا المؤشر تتصدره اليمن كأكثر دولة فاشلة في العالم وتتذيل الترتيب فيه دولة فنلندا، علماً أن ليبيا تصدرت دول العالم على مستوى ارتفاع المؤشر في العشرية الأخيرة بـ 25.8 نقطة.
تشير الاحصاءات الى أن ليبيا سجلت نزوح 300 ألف ليبي منذ انهيار نظام العقيد القذافي، فما عرفته البلاد في العشرية الأخيرة يعد بكل تأكيد تقويضاً للاستقرار وفرص بناء توافقات وطنية، كما أنه يشكل خطراً، ليس فقط على مستقبل ليبيا، بل أيضاً يمس الأمن الاستراتيجي للدول المغاربية وبلدان حوض المتوسط، بخاصة في ظل انتشار السلاح والمرتزقة الأجانب وغياب مؤسسات تملك سلطة فعلية على كل التراب، يضاف إلى ذلك اختلاف القوى الدولية والإقليمية ذات الصلة بالنزاع في ليبيا لاعتبارات اقتصادية وسياسية متباينة.
لقد شكلت ليبيا عشية ثورة 17 شباط (فبراير) حالة خاصة تختلف جوهرياً عن تونس ومصر، إذ إنها كانت تحمل إرثاً سياسياً وتنظيمياً فريداً، يكفي التذكير أنها كانت كما وصفها العقيد القذافي، أول جماهيرية في التاريخ...، فالقذافي لم يؤسس دولة بالمعنى المتعارف عليه دولياً، بل إنه دمر إرثاً مهماً خلفه الملك السنوسي، إذ كانت الملكية الليبية الناشئة تضع اللبنات الأولى لدولة مركزية حقيقية، في الوقت الذي كان الواقع يشهد على انقسام فعلي كرّسه أول دستور للبلاد سنة 1951 بين ثلاثة أقاليم رئيسية هي برقة وطربلس وفزان، وقد تأسست المملكة في البداية باسم "المملكة الليبية المتحدة" الذي استمر العمل به حتى 26 نيسان (أبريل) 1963 حين عُّدل إلى "المملكة الليبية" وذلك بعد إلغاء النظام الاتحادي الذي كان يجمع بين الولايات الليبية الثلاث طرابلس وبرقة وفزان، وكانت مدينة البيضاء عاصمة لها، غير أن هذا الإلغاء لم يرفع واقع الحساسيات الإقليمية بين شرق وغرب عبر مركزين رئيسيين هما بنغازي وطرابلس، وليس صدفة أن هذه الثنائية هي التي تغذي الصراع إلى اليوم.
لم يؤسس العقيد القذافي جيشاً نظامياً بعقيدة واضحة تتمحور حول الدولة الليبية، بل أحدث مجموعات من الميليشيات الموزعة بين أبنائه والمقربين منه، كان العقيد بذلك يسعى الى تأمين قبضته خوفاً من انقلاب عسكري، وجعل عقيدة تلك الميليشيات متمحورة حول شخصه وحول أتباعه، القذافي رفع شعار "من تحزب خان" فقضى على كل تعابير الدولة المتحضرة ودفع النخب الليبية إلى منافي العالم، والذين بقوا في ليبيا إما تم إعدامهم أو انخرطوا في نظامه طمعاً أو تَقية، كما ساهم العقيد في تشتيت القبائل الليبية وهي الوحدة الاجتماعية الرئيسية في البلاد التي حافظت على وجودها في زمن ما سمي بالجماهيرية بعد أن قضى على كل إمكان لبروز مؤسسات الوساطة من أحزاب ونقابات ومجتمع مدني، وعزل الشعب الليبي في "دولة" كانت أقرب إلى غيتو وسجن كبير.
لقد اغتصب القذافي السلطة وأنهى ملكية وحدت الشعب الليبي الموزع على القبائل والعشائر وكانت تسير بخطى حثيثة على درب الديموقراطية ولم تسجل عليها أي إساءة أو خيانة للشعب الليبي، بل لم تمضِ الملكية سوى فترة قصيرة، اذ كان الملك إدريس هو الملك الأول والأخير في تاريخ ليبيا، كما ألغى القذافي دستور المملكة الذي كان متقدماً في زمانه وكان يمكن أن يوفر تربة خصبة لتطور ديموقراطي حقيقي، الى جانب ثروة نفطية هائلة وعدد محدود من السكان مع موقع جغرافي في قلب الضفة الجنوبية للمتوسط، ومئات المواقع السياحية التاريخية التي قام بإبادتها.
ليبيا اليوم تدخل المنعطف النهائي كدولة فاشلة، لكنها تقدم لنا دروساً عن كيف يمكن أن يتم اقتياد الجماهير بشعارات كبيرة وخطب رنانة... لتكون ضد مصالحها ومستقبلها، وأن تقبل أو ترضخ لسنوات لحكم مجنون وهي تعتقد أنها تتحرر... ليبيا اليوم لا تملك سوى أحد خيارين، فإما أن تنجح في تسوية النزاعات الداخلية وتحد من التدخلات الأجنبية، وهي ليست عملية سهلة، لكنها ضرورية ومصيرية، وإما أنها ستدخل بصفة نهائية النادي الصغير للدول الفاشلة، فهل تستطيع الانتخابات أن تصلح ما خلفه السلاح من انهيار كامل للدولة، ومن جراح بين مناطق البلاد؟ وهل تنجح انتخابات أصلاً في ظل انقسام جذري وغياب توافق وطني؟