اتفاق حمدوك - البرهان... التفكير خارج صندوق "قحت"!
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
منذ اليوم الأول الذي فاجأ فيه رئيس الوزراء عبد الله حمدوك الشعب السوداني، بالتوقيع على الاتفاق الإطاري مع الفريق عبد الفتاح البرهان، في 21 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، كتبت تحليلاً بشأن سيناريو محتمل ومضمر في الوقت نفسه، لما أقدم عليه حمدوك، عبر تلك المفاجأة، بعد أكثر من ثلاثة أسابيع من الاستعصاء الصلب (صفحتي في "فيسبوك"). وكان الأرجح في تقديري أن السيناريو الذي قبل به حمدوك التوقيعَ على اتفاق إطاري مع البرهان يضمر احتمالاً لاتفاق غير معلن بضغط من المجتمع الدولي (الولايات المتحدة خصوصاً). وقد يدل ذلك على صفقةٍ تضمنها الولايات المتحدة لإخراج السودان من الوضع الحرج الذي تورط فيه العسكر بانقلابهم على المرحلة الانتقالية، عبر حسابات تبيَّن لاحقاً أنها كانت غير مدروسة وقد تشكل ردود فعلها آثاراً كارثية على الوضع في السودان برمته.
هكذا، فيما بدا لكثيرين في الاتفاق أن العسكر ظهروا كما لو أنهم انتصروا وأكرهوا رئيس الوزراء حمدوك بالضغط على التوقيع. وتكشف الأيام عن الحقائق ببطء، وهي تنحو في اتجاه أن حمدوك (ربما بما تيقن واستبصر من أدلة وضمانات قوية غير معلنه من المجتمع الدولي) وقذع ذلك الاتفاق الإطاري متحملاً ردود الفعل القاسية التي ستنال من صورته وسمعته - ولو مؤقتاً - من الشارع الثوري وحاضنته السياسية. لكن، يبدو أن الرجل كان يراهن على الأيام المقبلة التي ستكشف عن جدوى ما أقدم عليه من توقيع منفرد على ذلك الاتفاق.
اليوم، تتحدث الأوساط السياسية في الخرطوم عن قرب صدور اتفاق أو ميثاق سياسي جديد بين قوى سياسية منها أطراف من "قوى الحرية والتغيير" و"الجبهة الثورية"، يجري الإعداد له، وربما يرى النور في الأيام المقبلة. وسيكون ذلك الاتفاق أو الميثاق بمثابة مفصل وحاكم على اتفاق 21 نوفمبر الماضي. ويستند في مرجعيته إلى الوثيقة الدستورية. وهناك تكهنات بإجراء تغييرات في مجلس السيادة الذي كوَّنه الفريق البرهان بعد انقلاب 25 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، وأنباء عن تسليم السلطة للشق المدني في مجلس السيادة خلال يونيو (حزيران) 2022.
في بداية توقيع اتفاق 21 نوفمبر، كانت ردود فعل "قوى الحرية والتغيير" على اتفاق حمدوك - البرهان تعبيراً عن صدمة. ولا يزال جزء من "قوى الحرية والتغيير" مصراً على موقفه من إدانة اتفاق حمدوك - البرهان، مدرجاً فعل حمدوك في خانة الخيانة.
ومرةً أخرى، أثبت لنا أداء أحزاب "قوى الحرية والتغيير" (التي أدت تجربةً سياسيةً سيئةً في الحكم على مدى عامين ونصف)، أن مأزق السودان في العقل السياسي المأزوم الذي عبَّر عنه أداء تلك الأحزاب، خلال السنتين ونصف الماضيتين. ثم عبرت عنه مجدداً في موقفها الاتهامي المتحامل على حمدوك، احتجاجاً على التوقيع الذي أقدم عليه منفرداً، لأن أي قراءة ذكية للوقائع والأحداث ستؤشر على الموقف الذي كان ينبغي أن تبديه "قوى الحرية والتغيير" من حمدوك. وهو على الأقل التوقف ورهن الأمور بالأيام والأسابيع المقبلة، وكيف ستكون انعكاسات ذلك الاتفاق على تكوين الحكومة وتعيين الولاة وضمان الحريات السياسية والإعلامية.
لقد أوصل المكون العسكر في مجلس السيادة بانقلاب 25 أكتوبر الوضع السياسي، إلى حافة الهاوية. وفي تقديرنا أن اتفاق حمدوك &- البرهان كان، كما وصفه كثير من المراقبين، خطوة في الاتجاه الصحيح، باعتبار السياسة فنَّ الممكن، وباعتبار أن ثمة شروطاً كثيرة تضع السودان على حافة الهاوية، إذا ما تُرك الأمر للعسكر وعناصر نظام عمر البشير. وفي تقديرنا، أنه فيما تتضح يوماً بعد يوم طبيعة الضغوط الخارجية الهائلة التي تمارس على المكون العسكري وحجمها، سواء عبر ما يجري الإعداد له في لجنة العلاقات الخارجية لمجلس النواب الأميركي من وتيرة إجماع غير مسبوقة على قرار عقوبات فردية ضد من تسببوا في انقلاب 25 أكتوبر، أو ضغوط البعثات الدبلوماسية، فإن المؤشرات توحي بأن ثمة تداعيات ايجابية ستكشف عنها الأيام المقبلة حتى نهاية شهر ديسمبر (كانون الأول) الحالي (لا سيما مع مسيرات ذكرى الثورة في يوم 19 ديسمبر). ومن المهم اليوم أن ينخرط حمدوك في حوارات مع القوى السياسية الحية للإعداد لحاضنة سياسية جديدة، لا سيما بعد أن ظهرت مقالات رصينة لبعض الباحثين السياسيين مثل الشفيع خضر والنور حمد، إلى جانب مواقف لصحافيين وطنيين ربما استبصروا في اتفاق حمدوك ضوءاً، ومن هؤلاء شوقي عبد العظيم وعمار عوض والطاهر المعتصم والباحث محمد المبروك، وآخرون كانت تقديراتهم أقرب إلى الحقيقة من موقف أحزاب "قوى الحرية والتغيير" التي لم تتكشف مواقفها كلها بعد.
تتسارع الأحداث بوتائر إيجابية، وربما تفاجئ المشهد السياسي بأمور تتعلق بمصير الفريق البرهان، على وقع تفعيل قرار العقوبات الفردية في الكونغرس الأميركي. ولعل ذلك سينعكس على داعمي انقلاب 25 أكتوبر الماضي، ومنهم قادة حركات دارفور مثل مني مناوي وجبريل إبراهيم، وقادة بعض الأحزاب التي تدور في هذا الفلك. وذلك كله في ظل ضغط الشارع الثوري والمسيرات التي سيحركها وفق مواعيد مضروبة حتى نهاية ديسمبر الحالي.
إن الاغتراب والعزل اللذين تتعرض لهما حركتي جبريل ومناوي تحت ضغط المواقف الوطنية لأبناء دارفور الرافضين لانقلاب البرهان أثَّرا بوضوح في الانشقاقات التي بدأت بوادرها ظاهرة في جسمي الحركتين نتيجةً لتحالفهما مع العسكر في انقلاب 25 أكتوبر. وفي انتظار بنود الاتفاق السياسي الجديد والمرتقب خلال أيام، ستظهر على الأرجح مؤشرات ايجابية في الاتجاه الصحيح.
إن قوة الشارع السوداني فيما هي تجدد ضغوطها الثورية المكثفة عبر مسيرات لجان المقاومة والقوى الثورية من أجل تصحيح مسار الثورة، لا بد أن تتم تُرجم في وقائع سياسية مقبلة. فحتى لو أصرت بعض "قوى الحرية والتغيير" على الاختلاف مع حمدوك بعد ظهور بنود الاتفاق الجديد، نرى أنه من الأجدى لبعض "قوى الحرية والتغيير" المختلفة مع حمدوك أن تكف عن المثاليات السياسية، وأن تتحول إلى معارضة رشيدة تكون بمثابة إضافة مهمة للمساهمة في صون المرحلة الانتقالية عبر النقد البناء من موقع المعارضة.
لقد كانت الإشارات أكثر من واضحة في المواقف الصارمة التي أبداها المجتمع الدولي برمَّته ضد الانقلابيين. بل كانت الأمم المتحدة أكثر من واضحة على لسان أمينها العام انطونيو غوتيرش حين حث القوى السياسية السودانية على عدم تفويت ما هو متاح من إمكانية شراكة، قائلاً "ينبغي عليَّ أن أدعو إلى الحسّ السليم. أمامنا وضع غير مثالي ولكن بإمكانه أن يتيح انتقالاً فعالاً إلى الديمقراطية".
الخاسر الأكبر من انقلاب البرهان هو الإخوان المسلمون، الذين هللوا، وربما حسبوا فيه حلماً للعودة إلى الحكم، إذ بدا سخطهم واضحاً في التصريحات السلبية تجاه البرهان وحميدتي.
السودان اليوم أمام مفترق طرق، وجميع القوى السياسية ربما لم تدرك حتى الآن، حساسية هذا الوضع الخطير الذي أدرك عبره حمدوك معنى أن يوقع، كرئيس وزراء، اتفاقاً مع البرهان، على الرغم من الاعتراضات التي تعين عليه أن يتحملها. ففي سودان اليوم، ومنذ سقوط البشير، هناك أوضاع خطيرة وجرائم كبيرة ارتكبت، وهناك أوضاع إدارية وعسكرية لا تزال تعيث خراباً كقوى ثورة مضادة، في العديد من مناطق السودان، مثل اللجنة الأمنية للبحر الأحمر التي تسببت في إشعال فتن أهلية كادت أن تقذف بإقليم شرق السودان في أتون حرب أهلية طاحنة. وكذلك العمل التخريبي الذي قام به ما يسمى المجلس الأعلى لنظارات البجا بقيادة الناظر ترك في شرق السودان، من إغلاق الموانئ والطرق القومية وخنق السودان بإيعاز من المكون العسكري لمجلس السيادة، إلى جانب الدعوات العنصرية ونعرات الإقصاء التي تسببت في سفك دماء كثيرين من الأبرياء.
كل تلك الملفات التي عكست خراباً عريضاً خلال السنتين الماضيتين لقوى الثورة المضادة المتحالفة مع اللجنة الأمنية للبشير في المركز سعياً للانقضاض على المرحلة الانتقالية، تحتاج، (بعد تكوين حكومة حمدوك الجديدة وصدور الاتفاق السياسي الجديد وتعيين الولاة)، إلى فتح تحقيق في الجرائم التي ارتكبت بحق مواطنين أبرياء في شرق السودان وغربه من خلال إدارة ملف الفتنة التي حاولت بها قوى الثورة المضادة الانقضاض على المرحلة الانتقالية. فلا يمكن بعد اليوم أن يتعايش ذلك الوضع الشاذ الذي شهدته السنتان الماضيتان. ونتصور أن جهود لجان المقاومة والقوى السياسية الحية ومنظمات المجتمع المدني لا بد أن تكون في مقدمة الجهود بكل ولاية لكشف وملاحقة ومحاكمة المجرمين الذين تورطوا في سفك دماء الأبرياء وعرقلة مسار الثورة. وفي تقديرنا أن ذلك سيكون جزءاً أصيلاً من علامات نجاح الثورة السودانية.
إن حمدوك، الذي اتخذ القرار الصعب الذي يعكس فهمه لمعنى السيادة في اللحظات الحرجة، وهو على بصيرة ربما لم تدركها حتى اليوم أحزاب "قحت"، ليس لديه طموح حزبي وقواعد تنظيمية يكترث لولاءاتها وضغوطها. ولأنه قال بصريح العبارة إنه إذا لم يكن حراً في أداء مهمته السياسية المستقلة كرئيس وزراء من حيث القرارات التي يصدرها، ليس هناك ما يمنعه من تقديم استقالته على الفور، لأنه ليس حريصاً على المنصب، إذا لم يعكس اضطلاعه بمسؤولية صناعة القرار السياسي.
وإزاء هذين التعهدين من طرف حمدوك للشعب السوداني، يمكننا تفهم الصدقية والمسؤولية الوطنية والأخلاقية اللتين تجعلانه كمواطن سوداني أكثر حرصاً على خدمة بلاده- متى أُتيحت له الفرصة ووجد القدرة على إسداء الجميل لوطنه. فما قام به حمدوك من إنجازات سياسية ووطنية خلال الفترة الماضية، لن ينكرها أحد. وفي ضوء تلك الحقائق العارية التي تعبر عن أهداف حمدوك من اتخاذ ذلك القرار السيادي الصعب، على جميع القوى السياسية أن تفكر في الفرصة التي يتيحها وجود حمدوك على رأس السلطة السياسية، والموقف الدولي الضاغط على العسكر، وأن تعيد "قحت" النظر في الجوانب الإيجابية لجدوى المضي في ذلك الاتفاق من طرف حمدوك، في ظل أوضاع أصبح فيها السودان قريباً من مهب الريح!