جريدة الجرائد

حلم الدكتوراه الذي نجوت منه

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

في مثل هذا اليوم قبل 47 عاما، وبالتحديد في الـ27 من ديسمبر من عام 1973 وصلت أبوظبي للمرة الأولى. كانت نيتي أن تكون دولة الإمارات محطة مؤقتة في مسيرة تقودني للولايات المتحدة، إذ قررت أن أقضي في الإمارات سنة أو سنتين، تعيناني على وعثاء السفر، لاستكمال دراستي العليا والحصول على درجة الدكتوراه، حلم الغالبية العظمى من جيل تلك الفترة التي أصبحت الدراسة الجامعية الأولى لا ترضي طموحها، أو لم تعد كافية للتنافس على الوظائف المتوفرة خاصة الحكومية.


كانت الوظائف الحكومية في تلك الأيام مجزية نسبيًّا، إما على الصعيد المادي أو على صعيد الامتيازات، وإما حتى على صعيد النظرة الاجتماعية التي كانت تعطي لموظف ”الميري“ مكانة أعلى من الذين يعملون في القطاع الخاص.
كانت مؤسسات القطاع الخاص لا تزال تحبو، ولم تكن تحولت بعد إلى مؤسسات عملاقة كتلك القائمة حاليًّا، وكانت قدرتها على استيعاب الخريجين، من حملة المؤهلات الجامعية محدودة وإمكانياتها المادية قليلة.

الفرصة الوحيدة المتاحة في تلك الفترة للخريجين الجدد، كانت السفر للخارج خاصة لمنطقة الخليج التي كانت تعيش فورة تنموية، تستقطب خريجين من مختلف التخصصات وبشتى المجالات. حتى الخبرة المسبقة لم تكن مطلوبة، وكان من السهل التغاضي عنها، تحت ضغط الحاجة إلى ملء آلاف الشواغر، التي يعلن عنها يوميًّا، في مجالات التعليم والصحة والإدارة العامة فضلاً عن قطاع الإنشاءات النشط، المنخرط في عشرات المشاريع السكنية والطرق والجسور.


لم أجد أي صعوبة في العثور على عمل، ففي اليوم التالي لوصولي أبوظبي، تسلمت أول وظيفة، بل وكُلفت في ذلك اليوم بأول مهمة لي، وكانت حضور مؤتمر صحفي كان يعقده المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، ويلتقي خلاله الصحفيين العرب والأجانب الذين كانوا في زيارة للإمارات لتغطية احتفالاتها بالذكرى الثانية للاستقلال وقيام الدولة الاتحادية.

لم تكن القيود البروتوكولية، والإجراءات الأمنية، فرضت وجودها على الاجتماعات واللقاءات الرسمية. أيضًا لم تكن إجابات المسؤولين تخضع لأي فلترة أو مراجعة، وكان يُترك للصحفيين أنفسهم اختيار ما يناسبهم من أسئلة، واجتزاء ما يحلو لهم من تلك الإجابات.


لم يكن للإمارات في ذلك الوقت هذا الحضور الكبير في الإعلام العربي والدولي، وكانت لا تزال تتلمس الخطى في بحر من الاضطراب الجيوسياسي، كما أن حجم التدفق الإعلامي كان محدودًا، فضلًا عن وجود شح في المعلومات الأساسية، التي تسعف الإعلاميين في كتابة تقارير ناضجة، مستوفية للشروط المهنية.

كان التعبير السياسي والإعلامي عن تلك المرحلة من حياة دولة الإمارات محصورًا بعدد قليل من المسؤولين، الذين يعرفون حجم التحديات التي تواجه الدولة الجديدة، وعلى رأس هؤلاء وفي مقدّمهم كان الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رحمه الله، والذي كان يدرك بحكم تجربته في حكم إمارة أبو ظبي، وتصدره لجهود إقامة الدولة الاتحادية، المخاطر المحيطة بالتجربة الوليدة، ويعرف الدروب الوعرة التي لم يكن أمامه إلا الإبحار فيها لإيصال تلك التجربة، إلى شاطئ الأمان.

كان رحمه الله إعلاميًّا بالفطرة، استخدم الإعلام لتأليف القلوب في الداخل حول فكرة الاتحاد كنهج حياة، وخشَبة خلاص من ثالوث ”الفقر والجهل والمرض“ الجاثم على حياة الناس. لم يشغل نفسه كثيرًا بالبعد النظرى لفكرة الاتحاد، وركز في إطلالاته الإعلامية اليومية على ما يتحقق من إنجازات وما يجنيه المواطنون من مكاسب يلمسونها مطلع كل نهار.

في الشأن الخارجي ظل عصيًّا على الانحياز، وبقي قادرًا على انتهاج سياسة متوازنة، أكسبته احترام الجميع، وجنبته أطماع الطامعين.


في هذا الجو السياسي ولدت تجربتي الإعلامية، التي استمرت قرابة خمسة عقود عرفت خلالها الإمارات وهي تخرج للتو من شرنقة التخلف، إلى فضاء التطور والتقدم، وواكبت النشاط السياسي الذي أتاح لي مرافقة المغفور له الشيخ زايد في أول جولة عربية له والتي حملته إلى العراق وتونس والجزائر والمغرب وموريتانيا وليبيا قبل أن يحط به الرحال في مصر ومن ثم السعودية التي وقَّع فيها مع المرحوم الملك فيصل بن عبد العزيز اتفاق ترسيم الحدود بين البلدين وتبادل التمثيل الدبلوماسي.

بعدها تعددت المناسبات التي أتيحت لي فيها مرافقة الشيخ زايد رحمه الله، سواء في زياراته الخارجية أو في جولاته الداخلية. كما تعددت الفرص التي أجرَيتُ فيها أحاديث حصرية معه رحمه الله، والتي كان أولها في عام 1974، وكان آخرها حديث عن الصيد بالصقور أجريته في مستشفى الصقور بالعين، لمجلة الرجل التي كانت تصدر عن جريدة الشرق الأوسط التي عملت مراسلًا لها في الإمارات بين عامي 1990 و2006.

هذه التجربة الإعلامية الأولى تعززت بتجارب أخرى شملت مرافقة الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الدولة في زيارات رسمية خارجية، ومنها زيارته كولي لعهد أبوظبي إلى بريطانيا، حيث أجريت حديثًا معه للشرق الأوسط بمناسبة تلك الزيارة قبل وصوله إلى لندن. وأذكر أن الصورة التي نُشِرت مع الحديث كانت صورة ملونة وهي المرة الأولى التي تعتمد فيها الجريدة نشر صور ملونة.

وكنت قبلها أجريت حديثًا معه لمجلة اليوم السابع الباريسية وصدر الحوار على شكل موضوع غلاف تناول فيه قضايا محلية واقتصادية وإقليمية أبرزها الحرب العراقية الإيرانية ومخاطرها على الأمن الإقليمي.
بعدها أجريت حوارًا ثالثًا مع الشيخ خليفة للشرق الأوسط أيضًا، بمناسبة زيارته للسعودية والتقائه بالمرحوم الملك فهد بن عبد العزيز، كما رافقته بعد أن أصبح رئيسًا للدولة في زيارات خارجية عديدة، منها لمؤتمرات قمة خليجية في البحرين والرياض ومسقط، بالإضافة إلى زيارة دولة لكازاخستان.

وبخلاف الشيخ خليفة أتيحت لي مرافقة الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم في زيارات خارجية كان آخرها زيارة لألمانيا في عام 2006، كما أتيحت لي فرص إجراء حوارين معه أثناء عملي في الشرق الأوسط، كان الأول برفقة رئيس التحرير آنذاك عثمان العمير، في حين كان الآخر حوارًا خاصًّا للشرق الأوسط بعد تسلمه منصب حاكم دبي واختياره نائبًا لرئيس الدولة ورئيسًا لمجلس الوزراء.

التقيت أيضًا الشيخ محمد بن زايد ولي عهد أبوظبي ورافقته إلى كوسوفو حيث كانت هناك وحدات عسكرية إماراتية أسهمت بافتتاح مطار عسكري في منطقة حدودية مع ألبانيا اسمه مطار كوكس، وكانت مهمته استقبال مواد الإغاثة التي كانت تصل لمنطقة النزاعات العرقية إثر تفكك يوغسلافيا السابقة.
كما كتبت موضوع غلاف عن الشيخ محمد بن زايد لمجلة الرجل على شكل بروفايل تناولت فيه مختلف جوانب حياته العملية وتجربته القيادية.

هذه التجربة الغنية لم تخل من محطات صحفية مهمة، ومنها حديث مع الشيخ خالد بن صقر القاسمي ولي عهد إمارة رأس الخيمة السابق بعد أن ترك منصبه، وحديث مع خليفته الشيخ سعود بن صقر القاسمي حاكم رأس الخيمة حاليًّا.

وبالإضافة إلى كل ذلك كان هناك الكثير من الإنجازات الصحفية التي تبعث على الاعتزاز، والتي بسببها وفضلها حافظت على مكاني ومكانتي المهنية كل هذه السنوات.

اليوم عندما استعرض تجربتي وحياتي خلال العقود الخمسة الماضية، أتساءل هل كان بقائي في الإمارات طوال هذه الفترة، وعدم الجري وراء حلمي القديم، لنيل درجة الدكتواره من الولايات المتحدة، هو اختيار ومفاضلة مني، أو استجابة للقدر الذي جعلني أعيش تجربة مهنية وشخصية ثرية، وهل كنت سأحظى بما حققته شخصيًّا ومهنيًّا، حتى لو قادني ذلك الحلم للحصول على أكثر من شهادة دكتوراه.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف