العام 2022: الصين، الصين... نعمْ وأيضاً
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
بعض الانحياز الأكاديمي مثير للتعجب : أنا مشترك في موقع مجلة "فورين أفيرز" (الإلكتروني) وهي أهم مجلة للتفكير في السياسة الخارجية الأميركية ومعروف أنها تضم نخبة ما يُسمّى "الإستابلشمانت الديبلوماسي الأميركي على الشاطئ الشرقي للولايات المتحدة الأميركية".
قرأتُ على هذا الموقع مقالاً موقّعاً باسم دان ألتمان والتعريف المنشور للكاتب الباحث أنه " بروفسور مساعد في العلوم السياسية في جامعة ولاية جورجيا ".
عنوان المقال شيِّق ومهم وهو: مستقبل الغزو.
الكاتب ينطلق من معطى أن غزو الدول لبعضها البعض قد تراجع بعد الحرب العالمية الثانية ولكنه يسجّل استبدال الغزو الشامل بتزايد ظاهرة غزو ما يسمّيه "الأماكن الصغيرة" وإذْ يعدِّد عدداً كبيرا من الأمثلة كالصراعات الحدودية بين الهند والصين والغزو العراقي للكويت والغزو الروسي لشبه جزيرة القرم والغزو التانزاني لأوغندا والغزو الأميركي لكوريا ويلاحظ أن ان غزو "الأماكن الصغيرة" بدلا من غزو كامل الدولة غالبا ما لا يؤدي إلى الحروب بل ينحصر إما في اشتباكات محدودة أو في نزاعات تبقى سلمية.
والمقال رغم تعداده السريع لعدد من الأمثلة ينحصر عمليا في مراقبة طموحات الدول الكبرى: الصين والولايات المتحدة وروسيا وهو في جزئه الأكبر بحث في مشاكل الصين الحدودية مع محيطها الإقليمي الشاسع من الهند إلى تايوان إلى الفيليبين وفييتنام.
غير أن الكاتب حتى في مجال التعداد السريع لم يأت على ذكر إسرائيل لا في مجال غزو الأمكنة الصغيرة ولا الكبيرة مع أن تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي حافل بالأمثلة من الفئتين. وحتى من وجهة نظره لم يُثِر عنده ضم القدس وضم الجولان وحتى سابقة ضم طابا التي بقيت لفترة بيد إسرائيل بعد انسحابها من سيناء إثر معاهدة كامب دايفيد حتى استعادَتْها مصر عبر قوة تحكيم القانون الدولي. كذلك لم يأت على أي إشارة لمثال غزو لبنان الشامل عام1982. وهذه كلها أمثلة في قلب موضوعه المطروح.
يبدو أن الباحث أزاح عنه عمدا الأمثلة الإسرائيلية التي لا يزال عدد منها عالقا إلى اليوم مع عدم تسوية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي ناهيك عن السوري الإسرائيلي وإضافة حالة جديدة بين لبنان وإسرائيل تتعلق بترسيم الحدود البحرية الضروري لتوزيع مناطق استخراج الغاز. من وجهة نظري أساء الباحث بهذا الإغفال لتكامل مقاله الذي هو عملياً بحث في احتمالات اندلاع أزمات أو حروب تنخرط فيها القوى الثلاث الكبرى، الصين واميركا وروسيا.
أسمح لنفسي بمناسبة هذا المقال أن أطرح بعض الملاحظات عن الصين التي تمتلئ مكتبات الغرب من نيويورك إلى أستراليا بكتبٍ عنها ويصدر كل يوم كتاب جديد. أما الأمثلة التي يوردها الباحث في مقاله المشار إليه حول الصين راهنا تمثّل جزءا من ظاهرة تلازم الصعود الاقتصادي الصيني في مرحلته الحالية مع صعود الخطاب الوطني الصيني في السنوات الأخيرة أو تقدّم الوطنية الصينية في الخطاب الرسمي الصيني على أعلى مستوياته بدءاً من الزعيم الحالي تشي جين بينغ المرشّح أن تطول مدة حكمه.
ومن الملاحظ كما يستنتج القارئ من عدد النزاعات المطروحة حول "الأماكن الصغيرة" أن هذا الخطاب الوطني الصيني يرتبط بها في أحيان عديدة مثل النزاعات على جزر بحر الصين الجنوبي مع بروناي والفليبين وفييتنام أو جزر بحر الصين الشرقي مع اليابان والعديد منها صخور عائمة لا تستحق توصيف "جزيرة" من حيث المساحة. غير أنه كما مع اليابان أو مع الغرب حول تايوان فإن "المكان الصغير" هو مناسبة لإثارة المواضيع الكبيرة والكبيرة جدا في الذاكرة التاريخية الصينية المعاصرة. أتحدّث هنا عن "جروح" الغزو الياباني للصين في ثلاثينات القرن العشرين في الوعي الوطني الصيني و رفض الصين الدائم لاستقلال تايوان التي تنظر إليها بكين على أنها جزء من السيادة الصينية. هذا الموقف المتواصل الذي يشكّل أحد أبرز مواد التوتر مع الغرب وتحديدا الولايات المتحدة الأميركية. ومن المعروف أن من مفارقات هذا النزاع أن بكين أتاحت دوما لرجال أعمال تايوانيين وشركات تايوانية الاستثمار في الاقتصاد الصيني. ودان آلتمان يورد في مقاله نموذجا عن نوع الضغوط التي عادت الصين تمارسها على تايوان بعد "انقطاع الحوار" أن الرئيس تشي جين بينغ قام بتخفيض عدد السواح من البر الصيني المسموح لهم بزيارة تايوان من 4,2 مليون سائح عام 2015 إلى 2،7 مليون عام 2017 “مساهماً في خفض عائدات السياحة السنوية لتايوان من 44,5 بليون دولار إلى 24,4 بليون دولار!.
أكثر المقالات الأميركية دعوةً لسياسة زاجرة واضحة للصين في سياستها المهددة لتايوان ( (ريتشارد هاس ودايفيد سكس) يدعو واشنطن إلى عدم تجاوز خط الحفاظ على خطاب "صين واحدة" في أي سيناريو زجري للصين. وهذه مفارقة بحد ذاتها لأن ما تريده واشنطن من منع الصين من استخدام القوة العسكرية ضد تايوان يبقى مختلفا عن الاعتراف باستقلال الجزيرة. إنها نقطة معقّدة في العلاقات الدولية اليوم.
أختم بمناسبة موضوع عودة صعود خطاب الوطنية الصينية في الصين الشعبية الذي تلاحظه كل المتابعات الجادة للصين في السنوات الأخيرة، لا بل منذ العقد الأول من القرن الجديد والذي تصاعد في عهد الرئيس تشي، بطرح هذاالسؤال:
هل كانت الصين ستبدو أقوى مصداقية في مطالبتها باستعادة تايوان إلى السيادةالصينية لو أظهرت التزاما فعليا بمعادلة "سيادة واحدة ونظامان مختلفان" التي اتفقت عليها مع بريطانيا عند استعادتها هونغ كونغ عام 1997. ولكن كما هو معروف خلال حوالي ربع قرن أنتهى التميّز الهونْغ كونغي كنظام سياسي مختلِف عن النظام في البر الصيني، وأصبحت هونغ كونغ مجرد منطقة من مناطق السيطرة المركزية لسلطات بكين فاقدةً خلال العامين الماضيين كل مقومات حكمها الذاتي. الآن تعيد الصين طرح معادلة استعادة تايوان على أساس "سيادة واحدة ونظامان مختلفان". أما كان موقعها التفاوضي أقوى لو بدا مصير هونغ كونغ مختلفا واحتفظت بنظامه الديموقراطي؟ مع العلم طبعا أن عودة تايوان لن تقررها سوى موازين قوى عالمية أو على الأقل توازنات مختلفة في منطقة المحيط الهادي.