روسيا.. وسياسة حافة الهاوية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
لم يسعف الموقع الجيوسياسي أوكرانيا في بناء شبكة أمان، في محيطها الأقرب ولا الأبعد، وظلت محل شد وجذب في معظم الحقب التاريخية التي مرت بها في علاقاتها مع روسيا ، وتسبب ذلك الوضع بنشوء سياسة باتت أمراً واقعاً، قوامها التعاطي مع مختلف مظاهر العلاقات البينية الروسية - الأوكرانية بحذر وريبة، وصلت في إحدى حقبها إلى قيام موسكو باجتياح شبه جزيرة القرم وضمها إليها، فيما تمارس اليوم ضغوطاً ذات طابع عسكري وصفته الولايات المتحدة وحلف الناتو، بأنه تمهيد لاجتياح أوكرانيا.
لقد تعاطت روسيا مع المسألة الأوكرانية من وجهة هندسة الأمن في أوروبا عامة والشرقية خاصة، بعدما تمدد حلف الناتو شرقاً، وخوف موسكو من استيعاب كييف ، وبالتالي وصوله إلى الحضن الروسي، لاسيما أن سابقتي اجتياح روسيا في عهد نابليون ومن ثم في عهد هتلر حصلتا عبر أوكرانيا، ما شكل هاجساً دائماً وموضع توجّس في التعاطي مع القضايا المتصلة بها. وما زاد هذا الخوف طريقة تعاطي واشنطن في مواجهة السياسات الروسية من جهة ، ودفعها إلى التماهي مع سياسات حافة الهاوية في الأزمة الأوكرانية وهو ما جرّت موسكو إليه.
إن ظروف ما بعد الحقبة السوفييتية أنشأت وضعاً ليس ببعيد عن ظروف حقبة الحرب الباردة في العلاقات الروسية مع الغرب، وظل حلف الأطلسي بطبيعة الأمر الشغل الشاغل لموسكو، لاسيما أن ما يفصله عن عمقها الحيوي هما أوكرانيا وروسيا البيضاء وتعتبران في العقل الجمعي الروسي حديقتين خلفيتين لهندسة وسائل الرهبة الروسية تجاه الغرب الأوروبي عامة والعلاقات مع واشنطن خاصة.
لم يكن التعاطي الأوروبي في مواجهة روسيا موحداً، فلكل عاصمة رأي خاص في الموضوع وإن اجتمعوا على مواجهة موسكو. فالموقف الفرنسي مثلاً عبر رئيسها ماكرون كان من خلفية انتخابية، بهدف محاولة بقائه لولاية ثانية في الإليزيه وهذا ما ظهر في مستوى مباحثاته في موسكو مع الرئيس بوتين ومحاولة الظهور بمظهر الرجل صانع السلام في أوروبا، فيما زيارة المستشار الألماني أولاف شولتس إلى واشنطن وصفت بأنها لم تنسق بالقدر المطلوب، ولم تكن الأزمة الأوكرانية بأولوية في مباحثات الطرفين، لكن الأزمة الأوكرانية كانت في صميم محادثاته في موسكو.
لقد وصلت مستويات التصعيد مؤخراً إلى منسوب غير مسبوق بعد عام 2014 تاريخ اجتياح القرم، لجهة التحشيد العسكري وتنفيذ موسكو لمناورات عسكرية لافتة على الحدود الأوكرانية، إلا أنه وفي توقيت مدروس عادت موسكو وسحبت فرقاً عسكرية بدت وكأنها إشارات لإعادة تموضع جديد، هدفه تشجيع البحث عن حلول دبلوماسية للأزمة، وهو أمر استجابت له واشنطن وباقي الأطراف الأوروبية، لإيجاد بيئة تهدئة وبالتالي تسوية ما.
لقد ظل الهاجس الأمني وملفاته المتعددة والمتنوعة بالنسبة لموسكو، مرتبطاً بالجغرافيا السياسية وبالواقع الجيوسياسي الأوكراني، باعتبارها الخط الأخير الذي تعتمده روسيا في الدفاع عن أمنها الحيوي، وهو ما تدركه واشنطن تماماً وتحاول المسَّ فيه، عبر محاولات ضم أوكرانيا لحلف الناتو، وهو أمر تعتبره موسكو أيضاً أمراً محرماً وتسعى إلى منع حدوثه ولو استعملت القوة العسكرية، وقد استعملته في عام 2014 عند اجتياح شبه جزيرة القرم وضمها، وقبلاً في عام 2008 عند اجتياح جورجيا في منطقتي أبخازيا وأوستيا والتي عمدت إلى فصلهما وقلب النظام في تبليسي.
لقد نجحت موسكو إلى الآن في استثمار سياسة حافة الهاوية في التعاطي مع إدارة الأزمة الأوكرانية ، ولاقت واشنطن في الطرف الآخر بتناغم مع اعتمادها سياسة الاحتواء، في توفير بيئة مناسبة لتفادي المواجهة العسكرية، وهو أمر مكلف جداً لجميع الأطراف، والذي سيبدو المنتصر فيها مهزوماً قياساً على حجم الخسائر التي سيدفعها مقابل الأثمان التي سيجنيها؛ وبالتالي ستلجأ روسيا لاحقاً إذا تمكنت من اعتماد خيارات أخرى من بينها مثلاً محاولة الإتيان بنظام أوكراني يتماشى مع مصالحها وتطلعاتها كما حدث في الأزمة الجورجية سابقاً ، لاسيما أن ظروف الأزمات الأخرى التي يمكن التبادل فيها كثيرة كالشرق الأوسط بمختلف أماكنه ومحطاته، مروراً بشرق آسيا ووسطها وصولاً إلى إفريقيا وعقر دار واشنطن في المسرح الجنوبي والأوسط.