اجتياح أوكرانيا
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
الاستغاثات التي عاجلت بها الحكومة الأوكرانية دول حلف الناتو وسارعت لإسماعها كل دول العالم لمواجهة استباحة الروس للأراضي الأوكرانية مفهومة ومتفهمة، لكن الأكيد أننا ما كنا لنسمع بهذه الاستغاثات قبل الاجتياح لو أن الحكومة الأوكرانية تحلت بالمسؤولية والحكمة وأخذت على محمل الجد مخاوف روسيا، وليس تهديداتها، في إمكانية أن يتحول الشقيق السوفيتي السابق إلى خطر محدق بالأمن القومي الروسي إذا ما كدس الأسلحة وانضم لحلف الناتو الذي يبدو أنه انتهز فرصة انحلال حلف وارسو القديم. ولو تحلت حكومة كييف بالرصانة والتعقل بدلا من السياسات الشعبوية التي جسدتها أقوال رئيسها زيلنسكي وأعماله وتفهمت الموقف الروسي وعملت على أن تكون بالفعل دولة محايدة لا شرقية ولا غربية لما كان لحكومات أوروبا الغربية وحلف الناتو أن يسارعوا لاتخاذ العقوبات الاقتصادية وتقديم المساعدات العسكرية للأوكرانيين تلبية لنداءات زيلنسكي بمواجهة الاستباحة الروسية لأراضي بلاده.
ولو أن حلف الناتو فتح حوارا مع روسيا لمناقشة مخاوفها بصورة أكثر جدية مما فعل قبل الغزو الروسي، هل كان سيكون ضروريا انطلاق مثل هذه الاستغاثات من الجانب الأوكراني، وهل كانت الجيوش المجيشة تستبيح الأراضي الأوكرانية؟ المدة التي استغرقتها روسيا لحشد عديد جيوشها وعتادها على الحدود الأوكرانية لم تكن بالمدة القصيرة، بل كانت كافية لاحتواء الأزمة التي تفجرت نيرانا ودماء وفتحت الحدود لتهجير المواطنين الآمنين من بلادهم. ولكن أوروبا وحلف الناتو لم يأخذوا مخاوف روسيا على محمل الجد، وأحسب أنهم لم يريدوا ذلك؛ لأن التاريخ يحيلنا إلى أن أوروبا وأمريكا دائما ما يتحينون الفرص لوراثة الاتحاد السوفيتي عبر إيقاع الدولة الروسية في مآزق تقضم من سمعتها وصيتها الدولي المتنامي والذي يسير جنبا إلى جنب مع التنامي الاقتصادي والعسكري للتنين الصيني، خاصة وقد سقطت ورقة التوت عن أسطورة الولايات المتحدة الأمريكية التي لا تقهر بعد خروج جنودها المذل من أفغانستان وانتكاساتها في العراق وتراجعها المذهل أمام المساومات الإيرانية.
أعتقد أنه إذا لم تتدخل أمريكا تحت غطاء تقديم الدعم للشعب الأوكراني، وعملت على الدفع بالاتجاه المضاد فأن الحرب لن يتسع نطاقها ولن يطول أمدها مع ظهور بوادر لإجراء مفاوضات بشأن وقف الحرب، ولكن الإجراءات الاقتصادية التي فرضت على روسيا سيطول أمدها وسيكون لها تأثير شديد في الاقتصاد الروسي وستحد كثيرا من إمكانيات روسيا ليس على تمويل الجيش كما يريد حلف الناتو وإنما حتى على مستوى معيشة الشعب الروسي في الأمد الطويل مهما قيل عن الاحتياطات المالية التي اتخذها الرئيس بوتين لمواجهة مثل هذه الإجراءات العقابية التي كان حتما يعرف بأنها الوسيلة الردعية الوحيدة المتاحة التي تمتلكها الدول الأوروبية لمعاقبة روسيا، كما أن هناك في الجانب الآخر، آلام الأوكرانيين وأوجاعهم التي لا يعرف متى تندمل، ولا متى يتم إعادة بناء ما دمرته الحرب التي كان من الممكن تجنبها وعدم السقوط في مستنقعها.
هكذا هم السياسيون في أوروبا الديمقراطية لا يعبئون بالمشاعر الإنسانية ولا يكترثون بما يحل بالأوطان من خراب. كل ما به يعبئون ويكترثون له ويسعون إليه هي المصالح الحزبية التي تحققها أصوات الناخبين. أما المشاعر الإنسانية فلا تتحلى بها إلا الشعوب التي غالبا ما تتفاعل وتتضامن مع بعضها البعض. ولا يعتقدن أحد أن الوقفة الأوروبية الموحدة هي من واقع شعور إنساني بما يتعرض له الشعب الأوكراني، أبدا، فذلك أمر يدحضه موقف كل حكومات أوروبا الغربية عندما غزت أمريكا العراق، وعندما دمرت فرنسا ليبيا وتركتها نهبا للميليشيات في اقتداء فج بسيرة العم سام في العراق، وتركت أسوأ الآثار حيثما تدخلت في مشارق الأرض ومغاربها، ولعل جرح أكذوبة الربيع العربي المزعوم والذي لم يندمل بعد في بعض الدول العربية خير شاهد على التصور الأمريكي لمبادئ السيادة والحياد والديمقراطية المنسوجة على مقاس مراهنة حمقاء على إسلام سياسي تتغافل أمريكا وأوروبا أنه القلب النابض لمختلف الحركات الإرهابية.
أمريكا ودول حلف الناتو يعرفون حجم القوة العسكرية الروسية، ويدركون أن أي مغامرة منهم في هذا الاتجاه لن تقود إلا إلى دمار كوني، ولذاك اختاروا سلاح الحصار الاقتصادي عبر سلسلة من العقوبات الاقتصادية الصارمة وعبر تعبئة إعلامية مضادة لروسيا حشدت لها الدول الغربية وحلف الناتو ما لا يسع للمرء إلا أن يدعو معه بأن يحمي الله كوكب الأرض من عواقب كل ما يجري؛ لأن الصدام النووي لا يبقي ولا يذر.
بدلا من اتخاذ كل هذه الإجراءات المشجعة لأوكرانيا حتى تستدام نار الحرب والمستفزة للدب الروسي كان على الدول الغربية أن تعمل على التهدئة وتغليب منطق المفاوضات الصريحة والجدية المفضية إلى سلام دائم بين الجارين الروسي والأكراني. وقولنا هذا لا ينبغي أن يُحمل على أنه تبرير للحرب وللموقف الروسي الذي اختار بدوره المواجهة العسكرية والعدوان الخارجي على دولة ذات سيادة بدلا من العمل على إيجاد صيغ أخرى للتفاهم مع الجوار الأوكراني واحتواء الأزمة؛ إذ لا شيء يبرر إلحاق الأذى بالأبرياء من الشعب الأوكراني، ولا شيء يبرر الاقتداء بسياسات &"الكاوبوي&" الأمريكي في انتهاكات إرادات الدول والشعوب وفي صولات اكتساح كل القيم الإنسانية التي يتبجح اليوم بالدعوة إلى احترامها وفي جولات عدوانه الخارجي على دول لا ذنب لها إلا مخالفة السياسات الأمريكية.
روسيا دولة عظمى ولا يمكن الاستهانة بقوتها، والحرب الدائرة الآن لا أتصور عاقلا في العالم يدعو إليها، فشوكة روسيا لن تكسرها سياسات أمريكا الخرقاء ولا تبعية دول أوروبا، والعالم اليوم في حاجة إلى إعادة النظر في مآسي القطبية الأحادية التي جعلت السلم العالمي رهين مزاج أمريكي متقلب قاد في أكثر من مرة إلى ما لا تُحمد عقباه، فالمشكلات بين الدول والتكتلات الإقليمية لا تُحل إلا بالحوار والسلام وتغليب لغة العقل تغليبا يجعل بناء عالم جديد خال من الصراعات أفقا ممكنا.