عتبة تغير العالم
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
منذ أن شنت روسيا حربها على أوكرانيا في الـ 24 من فبراير (شباط) الماضي، لم تقتصر تداعيات هذه الحرب على الرقعة الجغرافية بين البلدين، بل أظهرت ردود أفعالها خارج نطاق أوروبا لتشمل مواقف كثير من الدول حول العالم، مما يعني أن هناك تراكمات لسياسات خارجية غربية وشرقية متضادة الأساس في مفهومها ونظرتها إلى الأحداث الرئيسة منذ انهيار الاتحاد السوفياتي مطلع تسعينيات القرن الماضي، والحروب التي أشعلتها الولايات المتحدة في الصومال وأفغانستان والعراق وغيرها، وتطبيق مبدأ المحافظين الجدد باستخدام القوة العسكرية في تغيير الأنظمة السياسية بذريعة فرض الديموقراطية الغربية، وما أحدثته من هزات سلبية أثرت حتى في بعض الحلفاء، لا سيما في المنطقة العربية.
وبغض النظر عن التجاذب الإعلامي الجاري بين الطرفين الروسي والأميركي في استباق نتائج الحرب في أوكرانيا، فإن العالم الغربي بزعامة الولايات المتحدة يواجه اليوم قوة ترفض هيمنته وتتحدى سطوته، خصوصاً سياسة النهج الأحادي الذي اتبعته الإدارات الأميركية المتعاقبة لأكثر من ثلاثة عقود مضت، ومع مرافقة التقدم البنيوي العسكري الروسي وصلت الصين بمنافستها الاقتصادية إلى مستوى خطر تجاه الغرب عامة والولايات المتحدة بخاصة، وتراصف الصين والهند وباكستان وكوريا الشمالية وإندونيسيا مع روسيا، والموقف السعودي والإماراتي الرافض تقديم المصالح الأميركية على حساب المصالح الخليجية والعربية، ومنها رفع زيادة إنتاج النفط وإمكان استخدام عملة الـ "يوان" الصينية بديلاً عن الدولار الأميركي في أسعار النفط، والجنون الغربي الذي دفع ببعض دوله مثل السويد والمجر وغيرها إلى الخروج من حيادها التقليدي تجاه هذا التحدي المتنامي، يوحي إلى أن العالم على عتبة تغير مقبل لا بد منه، إنها حركة التاريخ وفلسفته.
لذلك كان كبير مؤرخي القرن الـ 20 أرنولد توينبي (1889-1975) يرى أن "حياة مجتمعنا الغربي كانت موبوءة بشكل خطر بوباء الحرب خلال القرون الأربعة الماضية مقارنة بأي عصر سابق"، مع إقراره بأن الحضارة الغربية هي نظام حقيقي وليست مجرد اختلافات متنوعة الظواهر الثقافية والأشياء المتجاورة في المكان أو الزمان، إلا أنها خالية من الروابط السببية. (فلسفة التاريخ، المجلد الرابع، الديناميكية).
إن الحرب الواقعة في أوكرانيا لا تنحصر في الجوانب الميدانية والسياسية والاقتصادية وحسب، وما أتبعها من موجة عقوبات اقتصادية أميركية كبيرة وسريعة يشاركها الاتحاد الأوروبي ضد روسيا، وحملة الطرد الدبلوماسية الواسعة للموظفين الروس في أوروبا، والسباق الزمني المحموم في كسر الذراع العسكري الروسي الذي أبدى تحدياً واضحاً بجعل باب الحرب مفتوحة على مصراعها النووي.
كما أن هذه "الولولة" الغربية كشفت عن حقيقة الأبعاد التي ظن الغرب أن الزمن متواصل في جانب أولويته على سائر دول العالم والتحكم في أغلب شؤونها، فهذه الحرب المستعرة في أوكرانيا نقلت شدة الصراع من الظل إلى الواقع، والدور الخطر الذي لعبه حلف الـ "ناتو" بالاقتراب المباشر إلى حدود روسيا الاتحادية وريثة الاتحاد السوفياتي، مما انعكس بمجمله على موقف العلاقات الدولية بشكل عام.
وعندما يقول القائد السابق للقوات الأميركية أثناء غزو العراق الجنرال ديفيد بتريوس "الأوكرانيون يواجهون الروس مثلما واجهنا مقاتلي العراق"، فهذا خلط أميركي وتعسفي يفضح معايير مفاهيمهم المغلوطة، إذ إن الولايات المتحدة مع الدول المتحالفة معها ومنها أوكرانيا غزت العراق من دون قرار أممي ولا تفويض من مجلس الأمن الدولي، فعرضت القانون الدولي إلى الانتقاص والإهانة والاقلال من إرادة المجتمع الدولي، بينما الحرب الروسية على أوكرانيا لها أسبابها ودوافعها المتصلة بالأمن القومي الروسي وحسب.
وعليه، فإن هذه المقارنة التي طرحها بتريوس لا تعطي معنى القيمة الحقيقية لمفهوم المقاومة المسلحة ضد العدو المحتل، بل وجهة نظر عسكرية في توظيف الحدث لخدمة أهداف معينة وتحقيق مخططات مرسومة سلفاً، بخاصة أن بتريوس يرى أنه مهما بلغ عزم فلاديمير بوتين على غزو أوكرانيا فإنه يفتقر إلى القوات والدعم الشعبي المطلوب للنجاح في الاستيلاء على ذلك البلد لفترة زمنية طويلة، ومهما بلغت صعوبة حرب العراق بالنسبة إلى الولايات المتحدة فإن الأزمة الأوكرانية ستكون أصعب بمراحل بالنسبة إلى روسيا.
ولعل كاتب العمود في صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية روس داوذات في مقالته التي أشار فيها إلى أن "الحرب حتى الآن ولدت تضامناً معادياً للغرب"، فيه كثير من الصحة سواء في الداخل الروسي أو خارجه. وبحسب قراءة الكاتب فإن العقوبات المفروضة من الخارج والحرب الاقتصادية غالباً ما تؤدي إلى تعزيز القوة الداخلية للنظام المستهدف على المدى القصير، لأنه سيقدم كبش فداء خارجياً، وعدواً واضحاً يجب إلقاء اللوم عليه في المشقة بدلاً من قادة النظام، وعلى المدى الطويل تشير الأدبيات الأكاديمية إلى أنها قد تجعل الدول أكثر قمعية وأقل احتمالاً لإضفاء الطابع الديموقراطي.
أما الكلام عن رد الفعل الغربي على طموحات بوتين في تغيير النظام السياسي في موسكو ففيه كثير من المبالغة والتضخيم للدور الغربي، ولكن هذا لا يمنع من القول بإمكان القدرات الغربية على إعاقة حرب روسيا على أوكرانيا، وتعطيل بعض الأهداف الرئيسة ومنها الاستيلاء على العاصمة كييف، وفي نهاية الأمر فلا مناص من أن تضع هذه الحرب أوزارها آجلاً أو عاجلاً، سواء حققت روسيا كل أو جل أهدافها، وكذلك بالنسبة إلى عموم الموقف الغربي، كي يلاحظ العالم بعدها بروز عتبة التغير بوجود قوى دولية صنعت الفعل التاريخي المؤثر في التحكم والانفراد الغربي على سائر العالم.