أين تقع إيران وإسرائيل اليوم في المواجهات الأميركيّة - الروسيّة؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
دخلت المعادلة الإيرانية - الإسرائيلية على الحسابات الأميركية والروسية بصورة مميّزة هذا الأسبوع، على وقع تطورات الحرب الأوكرانية الحامية والمفاوضات النووية في فيينا التي تبدو فيها إيران كالأميرة النائمة الجاهزة لتستيقظ مبتسمةً، إنما المتأهِّبة للانقضاض على مَن أسبتها وكاد يدخلها في نوم عميق طويل.
رزمة العقوبات النفطية الغربية على روسيا المتوقعة في غضون أيام تجعل من الجمهورية الإسلامية الإيرانية وجهةً لكل من إدارة بايدن ورجال الكرملين لغايات وحسابات ذات علاقة بالحرب الدائرة بينهما. رجال طهران يفهمون جيّداً قيمتهم ووزن نفطهم في الحرب الأميركية - الروسية والأوروبية - الروسية، وهم على أهبّة الاستعداد للعب أوراقهم بكل براغماتية تعزّز مشاريعهم العقائدية والاستراتيجية، حتى ولو تطلّب ذلك تفاهمات ضمنيّة تضعهم مع إسرائيل في خندق واحد.
كل شيء وارد على طاولة رسم السياسات الخارجية التي يتصدّر صوغها وتنفيذها "الحرس الثوري" الإيراني التابع لمرشد الجمهورية آية الله علي خامنئي. الحروب الصغيرة بالنيابة في ساحات كسوريا ولبنان جاهزة للتفعيل بقرار من طهران، كما العمليات المباشرة من إيران داخل مواقع إسرائيلية حدّدتها طهران وأنذرت إسرائيل بأنها قادرة على استهدافها. هذا إذا ارتأت القيادة الإيرانية أن الوقت حان لاختبار جديّة المفاوضات النووية في فيينا ولدفع إدارة بايدن والحكومات الأوروبية إلى الانبطاح التام أمام مطالبها، بما في ذلك إصرارها على حذف الولايات المتحدة "الحرس الثوري" من قائمة الإرهاب.
أما إذا توصّلت مفاوضات الباب الخلفي مع رجال بايدن إلى تنفيذ الشروط الإيرانية ورفع العقوبات، بما يدرّ مليارات الدولارات على طهران بالذات من خلال تعويضها النفط الروسي لأوروبا، فإن القيادة الإيرانية ستكون على استعداد لنقلة نوعية في علاقاتها الدولية، لأن براغماتيتها تتيح لها التأقلم هنا والتمركز هناك. بكلام آخر، طهران لن تتردّد بالقفز عن الباخرة الروسية التي تغرق إذا وجدت ذلك في مصلحتها، مهما تصوّر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن ولاء إيران له استراتيجي ودائم.
طهران لن تعلن تفاهماتها التي تُصاغ مع إسرائيل عبر النافذة الأميركية إذا وجدت أن مصلحتها العليا تقتضي الانتماء - ولو تكتيكياً وموقتاً - إلى المعسكر الأميركي والأوروبي الذي التحقت به إسرائيل هذا الأسبوع ضد روسيا في حربها على أوكرانيا. ولكن، كل هذه الخيارات ما زالت قيد الدرس والفرز، بما في ذلك جدوى المواجهة العسكرية المحدودة بين إيران وإسرائيل كوسيلة لتحفيز إتمامٍ عاجل لصفقة إحياء الاتفاقية النووية JCPOA ولابتزاز الحاجة الأوروبية إلى النفط الإيراني البديل من نفط روسيا. فماذا سيفعل الكرملين؟ هل سيبارك صفقة فيينا حتى ولو أتت على حسابه نفطياً واقتصادياً؟ هل يحسب حساب التفاهمات الإيرانية - الإسرائيلية التي تسعى إدارة بايدن لصوغها ورعايتها، أم أنه يعتقد أن تبنّيه الدفع إلى مواجهة إيرانية - إسرائيلية سيعرقل المشاريع الأميركية ويخدم غاياته؟
تدهور العلاقة الروسية - الإسرائيلية في الآونة الأخيرة له أبعاد أوكرانية، لكن العلاقات بدأت تسوء منذ أشهر بالذات بسبب غضب المؤسسة العسكرية الروسية مما اعتبرته تجاوزات إسرائيلية في سوريا على قرب من قاعدة حميميم الروسية. العلاقة الشخصية بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ورئيس الوزراء الإسرائيلي السابق بنيامين نتنياهو ساهمت كثيراً في تشييد دبلوماسية روسية، كان هدفها حينذاك أن تكمل موسكو ما كانت بدأته إدارة ترامب وأسفر عن اتفاقيات أبراهام بين دول خليجية عربية وإسرائيل. وكان أمل الدبلوماسية الروسية التمهيد لتفاهمات إيرانية - إسرائيلية وتوسيع رقعة التفاهمات بين إسرائيل ودول عربية تمون عليها موسكو.
كان كل ذلك قبل مغامرة فلاديمير بوتين الأوكرانية، وقبل حملة أميركية وأوروبية وأوكرانية على المواقف الإسرائيلية من حرب أوكرانيا. كان قبل غلطة وزير الخارجية سيرغي لافروف بكلامه عن النازية واليهودية، والتي دفعت فلاديمير بوتين إلى الاعتذار لإسرائيل... بعد فوات الأوان. فلقد اتخذت إسرائيل قرار مد أوكرانيا بأسلحة متطوّرة تشمل أجهزة صواريخ متفوقة وطائرات مسيّرة، ولم يعد في وسعها التراجع عن القرار حتى بعد الاعتذار.
هذا يشكّل لموسكو ضربةً في الصميم سياسياً وبسيكولوجياً، وليس فقط لجهة فاعلية السلاح الإسرائيلي والتحاق إسرائيل بالدول التي تعتبرها موسكو "غير صديقة"، وتضم 47 دولة تشمل الولايات المتحدة وأوروبا واليابان وأستراليا وكندا وغيرها. ثم هناك عنصر الجالية اليهودية داخل روسيا وعنصر معنى التقارب بين القيادتين الإسرائيلية والأوكرانية. كل هذا يفيد بأن تغييراً جذرياً طرأ على العلاقة الروسية - الإسرائيلية، وهو أمر ليس ببسيط.
لقد خطر في بال موسكو استخدام علاقاتها بطهران لتحفيز المواجهات الإيرانية - الإسرائيلية عبر جبهات الحروب بالنيابة في سوريا ولبنان، وذلك أملاً منها أن تؤدّي المواجهات إلى إحراج الرئيس جو بايدن واستفزاز الداخل الأميركي والجالية اليهودية الأميركية ضدّه إذا تردّد في الدفاع عن إسرائيل أو تمادى في استرضاء إيران من أجل الصفقة النووية. هذا الاحتمال ما زال قائماً، لكن صاحب القرار الفعلي وراءه هو طهران وليس موسكو، كما يتصوّر الكرملين. وطهران تحتفظ بأوراقها وتحسب كل خطوة لتكون في مصلحتها، فهي المستفيدة من كل الظروف حولها بدءاً بالحرب الأوكرانية مروراً بالخلافات الروسية - الإسرائيلية وانتهاءً باندفاع عارم لإدارة بايدن والحكومات الأوروبية على استرضاء إيران لأسباب نفطية. طهران متأهّبة للاستفادة.
قد يقال لماذا يتخذ فلاديمير بوتين قرار الموافقة على الصفقة النووية واستكمال مفاوضات فيينا، إذا كان يعلم مسبقاً أن رفع العقوبات عن إيران بالتزامن مع فرض حظر بيع النفط الروسي يعني اقتصادياً توجيه ضربة قاضية إلى نفط روسيا؟ هناك من يرى أن فلاديمير بوتين واثق جداً بعلاقات التحالف الاستراتيجي بينه وبين القيادة الإيرانية، وهو متأكّد من أن طهران ستتحايل على التفاهمات النفطية وتساعد موسكو بطرق عديدة وراء الكواليس.
وهناك من ينظر إلى الأمر بكل بساطة، على أنه ضرورة سياسية لبوتين ليظهر أنه سمح بنجاح مفاوضات فيينا، الذي كان يمكن له أن يمنعه، وذلك ليظهر للعالم أن روسيا ما زالت لاعباً مهماً في وسعه التأثير في قرارات على هذا المستوى، وليست دولة معزولة أو منبوذة.
وقد يكون الأمر، ببساطة أيضاً، أن بوتين في حاجة إلى قصة نجاح في هذا المنعطف. قد يجدها في مفاوضات فيينا، إذا قرّر حقاً أن السياسة أهم من الاقتصاد، أو إذا كان واثقاً حقاً بأن إيران حليفه الدائم مهما كان، وأن مكانها ومكان روسيا هو في الترويكا مع الصين في وجه الغرب.
هل يكون إنجاح مفاوضات فيينا، بتسهيل من روسيا، رسالة من الكرملين إلى البيت الأبيض، تؤدّي إلى "ورقة تين" تتحوّل إلى فرصة لبدء اتخاذ خطوات إلى الوراء، بدلاً من الزحف إلى حرب عالمية ثالثة؟
كل شيء وارد. بعض الأمور يبدو أكثر استحالة من غيره، وبعضه يلاقي عراقيل قد تؤدّي إلى نسف تفاهمات أو تعديلها، أو لربما الإسراع بها لتمريرها قبل تراكم المعارضة لها لدرجة الاستحالة. الصفقة البايدانية مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية هي أحد هذه الأمور التي لا يمكن حسمها كلياً في هذا المنعطف لاعتبارات عدة.
مجلس الشيوخ الأميركي أقرّ هذا الأسبوع مشروعي قانونين شدّدا على إبقاء "الحرس الثوري" في لائحة المنظمات الإرهابية. صوّت 62 عضواً، بينهم 16 ديموقراطياً، لمصلحة مشروع قانون طرحه السناتور جيمس لانكفورد ينص على عدم شطب "الحرس الثوري" من قائمة الإرهاب، كما تملي طهران على إدارة بايدن. ووافق المجلس على مشروع قرار طرحه السناتور تيد كروز، أكد إبقاء العقوبات المرتبطة بالإرهاب على "الحرس الثوري" وعلى البنك المركزي الإيراني دعمه 86 مشرِّعاً.
هذه رسالة مهمّة حذّر بها الكونغرس إدارة بايدن من مغبّة الانبطاح أمام طهران، ونبّهها إلى عواقب إحياء الاتفاقية النووية بتجاهل نشاطات إيران الإرهابية ونياتها التوسعية المزعزعة للاستقرار إقليمياً. مشروع لانكفورد ليس ملزماً، لكن انضمام ديموقراطيين على مستوى تشك شومر وكريس كونر المقرّب من بايدن، إلى الغاضبين من تنازلات إدارة بايدن أمام طهران له دلالات قد تلجمها... أو قد تدفعها إلى الإسراع في تمرير الصفقة، وفي هذا أنها تحتاج إلى إسرائيل.
ما هي نوعية المساومات والمفاوضات والتفاهمات التي تعمل إدارة بايدن عليها لضمان موافقة إيران وإسرائيل؟ الشيطان في التفاصيل. لكن ما تعتقد أو تتصوّر إدارة بايدن أنها قادرة على تحقيقه هو "ضربة معلِّم" - من وجهة نظرها - قوامها الآتي: أولاً، أن التحاق إسرائيل بالغرب في معسكر مواجهة روسيا بالأسلحة المتطوّرة في أوكرانيا يعني انتصاراً لإدارة بايدن في تحويل إسرائيل من خانة الوسيط والمحايد في حرب أوكرانيا، إلى خانة الشريك للغرب المعادي لروسيا. وثانياً، أن فصل إيران عن روسيا من خلال ترغيبها بصفقة رفع العقوبات عنها، وشطب "الحرس الثوري" عن قائمة الإرهاب، وتوفير الأسواق الأوروبية لضخ نفطها بأسعار ملتهبة، إنما يشكل في نظر إدارة بايدن إنجازاً استراتيجياً، مع أنه في حقيقة الأمر مجرّد خطوات تكتيكية خطيرة على المستوى الاستراتيجي والمدى البعيد، ليس فقط على منطقة الشرق الأوسط بل أيضاً على المصالح الأميركية.
أولوية البايدنية اليوم هي الانتصار في الحرب التي تخوضها مع روسيا في أوكرانيا وما يتعدّى أوكرانيا. إنها تحشد الأصدقاء والأعداء على السواء، في لعبة تعتبرها استراتيجية، لكنها فعلياً تكتيكية هدفها عزل روسيا وتحطيم البوتينية.
وللتأكيد فإن فلاديمير بوتين ليس أقلّ سذاجة اليوم في حساباته الاستراتيجية والتكتيكية على السواء، إذ إنه أدخل روسيا في دهاليز البوتينية. لا ضوء له في نهاية النفق سوى الضوء النووي التكتيكي الذي بدأ يلوّح به، آملاً أن يمدّ له الغرب خشبة الخلاص ويعيد تأهيله، وهذا ما لن يحصل.