جريدة الجرائد

ماذا في الهندسة والتقنية لمسيرة التنمية؟

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

عندما نتحدث عن الهندسة والتقنية ومسيرة التنمية، يبرز أمامنا تاريخ القرون الثلاثة الأخيرة، حيث شهد خلالها الإنسان تغيرات متعددة، في طبيعة الحياة التي يعيشها، تقودها مجالات الهندسة والتقنية المختلفة. فقد انطلقت الثورة الصناعية الأولى في القرن الـ 18 للميلاد، وكانت الآلة البخارية الرمز الأساس لتلك الثورة، حيث أدارت هذه الآلة ليس فقط دواليب عجلات القطارات، بل حركة المصانع في مجالات متعددة. وفي نحو منتصف القرن الـ 19 برزت الثورة الصناعية الثانية من خلال ظهور الكهرباء والهاتف، ثم السيارات، وكذلك الطائرات، وغيرها. وفيما بعد منتصف القرن الـ 20، جاءت الثورة الصناعية الثالثة لتحمل بدايات العصر الرقمي، بانتشار الحاسوب، ثم الحاسوب الشخصي، والإنترنت. ومع دخول القرن الـ 21، بزغت الثورة الصناعية الرابعة، حاملة معها بدايات إنجازات الذكاء الاصطناعي، وتقنيات النانو، والخريطة الجينية للإنسان وغير ذلك. واليوم يجد إنسان هذا العصر نفسه أمام معطيات متجددة بتسارع معرفي غير مسبوق، على وشك أن يطلق الثورة الصناعية الخامسة.
كانت مجالات موضوعي الهندسة والتقنية وراء كل ما شهده الإنسان من تغيرات، ورفاهية في المعيشة، عبر الثورات الصناعية ومن المتوقع أن يستمر الأمر كذلك في المستقبل. وأوضحنا في المقال السابق أن المعرفة المتجددة في هذه المجالات ليست مستقلة، بل تعتمد على المعرفة الأصيلة والمتجددة في مجالات موضوع العلوم، كما تعتمد أيضا على مجالات موضوع الرياضيات الذي يقدم لغة خاصة تتمتع بفاعلية واضحة في التعبير، مقرونة بمحاكمة فكرية دقيقة، يمكن استخدامها والاستفادة من فوائدها في طرح الأفكار والتعامل معها، ليس فقط في مجالات موضوع العلوم، بل في مجالات موضوعي الهندسة والتقنية أيضا.
أوردنا في المقال السابق، مضامين ومجالات موضوعي العلوم والرياضيات، واعتمدنا في ذلك على الموسوعات العالمية المعروفة، لأنها مرجعية متفق عليها على نطاق واسع. وسنورد هنا مضامين ومجالات موضوعي الهندسة والتقنية بالطريقة نفسها. تعرف الهندسة طبقا لموسوعة ماكرو - هيل McGraw-Hill المختصرة، للعلوم والهندسة، على أنها فن توجيه مصادر القوة في الطبيعة نحو الاستخدام لما فيه مصلحة الإنسان. وعلى ذلك تحيط الهندسة بشؤون الإنسان، والمال، والمواد، والآلات، والطاقة. وتختلف الهندسة عن العلوم، طبقا للموسوعة، في أنها ترتبط بالتوجه نحو تحقيق الفوائد من الظواهر الطبيعية، بكفاءة اقتصادية، بينما تسعى العلوم إلى اكتشاف هذه الظواهر، ودراستها، وتوثيق أسبابها، ووضع النظريات بشأنها. وتعطي الموسوعة البريطانية Britannica صياغة مختصرة ومفيدة، في طرحها المقصود بالهندسة. فهي تنظر إليها على أنها تطبيق للعلوم يؤدي إلى تحول أمثل في موارد الطبيعة إلى ما يستطيع الإنسان استخدامه والاستفادة منه.
وتورد الموسوعة البريطانية إضافة إلى ما سبق تعريفا للهندسة، معتمدا من مجلس المهندسين الأمريكي للتطوير المهني. يقول هذا التعريف إنها التطبيق الإبداعي للمبادئ العلمية من أجل تصميم، أو تطوير هياكل وآلات، وأجهزة، وإجراءات في التصنيع، وكذلك من أجل الأعمال، التي تستخدم هذه المخرجات جزئيا أو كليا. ويضيف التعريف سببا آخر للتطبيق الإبداعي المطروح ويعبر عنه على أنه بناء وتشغيل ما ورد من معطيات، إضافة إلى وضع توقعات بشأنها ضمن شروط محددة. ويأتي ذلك كله بهدف القيام بعمل مطلوب، متميز اقتصاديا، ويحقق الرفاهية في الحياة، والأمان للممتلكات.
ونأتي إلى التقنية، حيث تقول موسوعة ماكرو - هيل المختصرة للعلوم والهندسة، إن التقنية هي معرفة وعمل منظم، يرتبط عادة بالإجراءات الصناعية المتكررة، لكن هذه المعرفة وذاك العمل المنظم قابلان للتطبيق أيضا على نشاطات أخرى ذات طبيعة متكررة. ولا تكتفي هذه الموسوعة بذلك، بل تحاول النظر إلى التقنية من منظار تكاملي يبدأ بالتعريف بالعلوم، ثم الهندسة، وصولا بعد ذلك إلى التقنية. فالعلوم طبقا للموسوعة تهتم بالفهم الإنساني للعالم وخصائصه، بما في ذلك الفضاء، والمادة، والطاقة. وتركز الهندسة على تطبيق المعارف العلمية، بهدف الاستجابة لمتطلبات قائمة، وأخرى استباقية، وإبداع معارف هندسية تتضمن خططا، وتصاميم، وكذلك أساليب ووسائل لتنفيذ المتطلبات. وتأتي التقنية بعد ذلك للتوجه نحو العمل على تنفيذ الخطط والتصاميم، واستخدام الأساليب والوسائل اللازمة لذلك.
وتعطي الموسوعة البريطانية تعريفا للتقنية يماثل ما سبق، لكن بكلمات أخرى تستحق الطرح. يقول التعريف تتضمن التقنية تطبيق المعرفة العلمية من أجل تحقيق أهداف الإنسان العملية، أو بالأحرى من أجل تغيير بيئة حياة الإنسان والتأثير فيها. وشهد الاهتمام بالتقنية قفزة في حياة الإنسان منذ بدايات الثورة الصناعية الأولى، وما بعد ذلك، وصولا إلى الثورة الصناعية الرابعة، بل الخامسة التي تقرع أبواب العصر الذي نعيشه.
تحتاج مسيرة التنمية إلى تفعيل مجالات موضوعي الهندسة والتقنية، وهذه بدورها ترتبط بتفعيل مجالات موضوعي العلوم والرياضيات، أي: إن متطلبات التنمية ترتبط بالموضوعات الأربعة التي يجب الاهتمام بها جميعا في إطار محاور الثقافة، وإعداد الناشئة، وتأهيل المختصين، والبحث العلمي، ومعطياته. ولعل من المناسب هنا طرح ملاحظة مهمة ترتبط بمدى اقتراب كل من الموضوعات الأربعة من مسيرة التنمية التي تتطلب معرفة تحمل قيمة مباشرة، تسهم في تفعيل هذه المسيرة. الموضوع الأقرب إلى التنمية هو بالطبع موضوع التقنية والمخرجات الناتجة عن مجالاتها المختلفة. فمهما توسعت لدينا المعرفة في المجالات العلمية، وكذلك في المجالات الهندسية، ومهما كانت الصياغة الرياضية لهذه المعرفة فاعلة ودقيقة، فإنها تبقى قاصرة عن الإسهام في التنمية، ما لم تنتقل إلى عالم التقنية ومجالاتها، ووسائلها المختلفة.
لا شك أن علينا أن نولي الموضوعات الأربعة العلوم، والرياضيات، والهندسة، والتقنية مزيدا من الاهتمام، ويشمل هذا الاهتمام تكامل هذه الموضوعات، ضمن توجه تصب معطياته في متطلبات التنمية المنشودة وفي هذا الإطار، لا بد من التركيز على التقنية خصوصا. ويتضمن الاهتمام بالتقنية، ليس فقط جانب المعرفة التي تحتاج إليها، سواء النظرية أو التطبيقية، بل جانب العمل المنظم الذي يستهدف تقديم منتج جديد أو منافس لمنتجات قائمة، أو ربما إعطاء إجراء أجدى كفاءة، وأكثر فاعلية، وصولا إلى تقديم قيمة متجددة تسهم في مسيرة التنمية الناجحة بمشيئة الله.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف