العراق والمتنبئون بسقوط النظام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
من يدقق في العوامل الحقيقية التي أشعلت ثورة الجماهير السريلانكية يجد أن أهمها وأولها فجورُ الرئيس الهارب وإخوته وأبناء عمومته، واستئثارهم بالثروات والمغانم، وتماديهم وإفحاشُهم في قهر معارضيهم، وإفقار بلادهم، وتجهيل جماهيرهم، وحرمانها من احتياجاتها الحياتية الأساسية، وغباؤهم الذي أوهمهم بأنهم مخلدون، وبأن المظلومين والمسروقين والمقهورين لن يقتحموا عليهم قصورهم، ولن يتدفقوا إلى غرف نومهم، ولن يرقصوا على أسرّتهم، ولن يعوموا في أحواض سباحتهم، ولن ينهبوا أغراضهم، ثم يُسقطون نظامهم في سويعات، ثم لا يتمكن إلا أشطرُهم من الفرار.
وبقياس أوضاع العراق، منذ 2003 وحتى اليوم، نجد أن ما كان في سريلانكا من ظلم وفساد وتبعية كائنٌ في العراق، وربما أبشع منه، وأكثر فسادا وظلما وتجويعا وتجهيلا وعمالة.
فالسريلانكيون، مثلُ العراقيين، متعددو الديانات والقوميات واللغات، بحيث يشكل البوذيون 70 في المئة منهم، والهندوس 12، والمسلمون 10، والمسيحيون 9. وقوميا يشكل السنهاليون 75 في المئة، والعرب التاميل 11، والهنود 4. ولهم لغتان رسميتان، هما السنهالية والتاميلية.
ولكن الذين ملأوا الساحات والميادين والشوارع مواطنون من جميع القوميات والأديان والمناطق والمذاهب، وحَّدتهم حاجتهم إلى العدالة والنزاهة والوحدة والأمن والاستقرار والسيادة والكرامة، فلم يرفعوا سوى علم واحد، ولم يصدحوا إلا بهتاف واحد، ثم تحقق المطلوب في سويعات.
أما المتنبئون والمحللون والمعلقون الذين يخوضون في الشأن العراقي ويبشرون بسقوط النظام الحالي القائم على المحاصصة في شهر، أو في عام أو عامين، ويشخصون القوة الخارجية التي ستقوم بالمهمة، فهم يهجسون، ويَمترون، ويثرثرون، بلا برهان ولا دليل.
العراق ليس جزيرة معزولة عن محيطها وعن العالم، وإنما هو بقعة أرض جعلها الله عالقة بين يأجوج ومأجوج، ويملكها الأربعون حرامي، وكبيرُهم القابع وراء الحدود
فكثيرا ما تنبأوا بأشياء أو توقعوا أشياء ثم جاءت الأحداث بعكس ما توقعوا.
أحدهم لم يتنبأ فقط بل بتَّ بعودة حزب البعث إلى حكم العراق، أسوة بعودة طالبان إلى حكم أفغانستان.
وآخر توقع قيام الناتو العربي &- الإسرائيلي &- الأميركي المنتظر بمهمة قلع النظام السياسي في العراق من جذوره قريبا.
وذهب أحدهم إلى أبعد من ذلك بكثير، فأعلن أن مخططًا يدار الآن لـ”إسقاط” نظام الحكم في العراق. وحَدَّد مهلة ذلك بعامين.
وأوضح أن “قوة ساحقة مدمرة ستزيح الطبقة السياسية برمتها، وأنّ عام 2024 هو أقصى موعد للقضاء على النظام الحالي إلى الأبد”. لكنه رفض الكشف عن اسم الدولة التي ستقوم بالمهمة، رغم أنه اطلع على مخططها السري الكامل لإسقاط النظام.
فلكي يكون المحلل أو المتنبئ السياسي في الشأن العراقي، وفي غيره أيضا، أقرب إلى قول الشيء الصحيح ينبغي أن يكون خبيرا سياسيا أو عسكريا أو اقتصاديا ما زال محتفظا بعلاقات عميقة بعواصم القرار العالمية الفاعلة، وبحكومات المنطقة، وبالأحزاب والتكتلات والائتلافات المحلية، ليكون قادرا على قراءة المقدمات ويتوقع النتائج، ولكن دون جزم، وذلك لأن أحداً لا يملك العلم بالغيب، وبما قد تحمله رياح جديدة طارئة.
والذي يجعل توقعات هؤلاء المحللين حديث مقاه شعبية، وخبط عشواء، هو أن الواقع الثابت في العراق لا يسمح إلا بانتفاضة طائفة واحدة تقاطعها الطوائف الأخرى المخالفة، أو قومية واحدة تعارضها القوميات الأخرى، بعد أن تمكن السياسيون الحاليون من تعميق العداوة والخوف والكراهية وانعدام الثقة بين طوائف الوطن الواحد وقومياته وأديانه، بجدارة.
ولو تكررت انتفاضة تشرين الخالدة، مرة أخرى، فلن تكون عراقية شاملة يرفرف في سمائها علم عراقي واحد، ويهتف ثوارها بشعار واحد، كما في سريلانكا والأرجنتين وتونس والسودان، وقبلها مصر، بل ستكون معرضا لعشرات الصور والأعلام والشعارات، وقد تكون بينها صور مراجع دينية وحزبية وحكومية أجنبية، أيضا.
شيء آخر. لا يختلف اثنان في أن القبض على العراق ساعَد نظام الحكم الإيراني على الاستقواء في سوريا، والتمدد في لبنان، ثم في اليمن. وبهذا يصبح هذا النظام، بكل طاقاته وذيوله وميليشياته، أول أعداء الانتفاضة الجديدة وأخطرهم، وأكثر الساعين إلى إفشالها بكل الوسائل والأساليب.
تركيا ودولا عربية وأجنبية، ومنها أميركا ودولٌ أوروبية، مع روسيا والصين، لا يسرّها ولا يناسبها سقوط النظام الفاسد الحالي وقيام حكومة شعبية عراقية خارجة من أعماق الضمير الوطني العراقي
ثم إن الطبقة السياسية والاقتصادية والأمنية والعسكرية والإعلامية العراقية الحاكمة وفق نظام الحصص السيء الحالي، دفاعا عن مكتسباتها ومواقعها ووجودها، لا بد أن تكون العدو الآخر المستميت من أجل وأدها وقتل نشطائها، وبعثرة صفوفها ودفن أهدافها.
وذلك لأن انتصار الشعب العراقي على نظامهم، وإقامة سلطة شعبية وطنية جديدة متحررة من أيّ وصاية أجنبية يعني أنهم والمتحالفين معهم، والمستفيدين من فسادهم، شيعة وسنة وكردا، مسلمين ومسيحيين، سيكونون إما وراء القضبان، أو قتلى، أو هاربين من وجه العدالة.
ثم إن تركيا ودولا عربية وأجنبية، ومنها أميركا ودولٌ أوروبية، مع روسيا والصين، لا يسرّها ولا يناسبها سقوط النظام الفاسد الحالي وقيام حكومة شعبية عراقية خارجة من أعماق الضمير الوطني العراقي، عادلة ونزيهة، قوية وجريئة، ترفض العمالة والخيانة، ولا تفرط بحقوق الدولة العراقية وسيادتها وكرامة شعبها.
وعليه فإن أغلب التحليلات والتنبؤات والتوقعات التي نشاهدها هذه الأيام على شاشات الفضائيات ومواقع التواصل التي تبشر بالوطن العراقي الجديد المتحرر من سلاح الميليشيات، ومن وصاية المرجعيات والحكومات الأجنبية، مجردُ أضغاث أحلام.
فالعراق ليس جزيرة معزولة عن محيطها وعن العالم، وإنما هو بقعة أرض جعلها الله عالقة بين يأجوج ومأجوج، ويملكها الأربعون حرامي، وكبيرُهم القابع وراء الحدود.
إن الحقيقة هي أنه لن يتحرر من كوابيس الفصائل الولائية، ومن خطابات عمار الحكيم، وتغريدات مقتدى الصدر، وتكتيكات نوري المالكي وهادي العامري ومحمد الحلبوسي ومسعود بارزاني وبافل طالباني إلا إذا تغير الهواء في إيران، وإلا إذا اقتنعت أميركا بأن طهران ولاية روسية وصينية خالصة، وقررت، بجد وصدق ونية صافية، أن تغزوها مثلما غزت العراق، وهو حدثٌ لو تعلمون عظيم، ولكنه سيحدث قريبا، أو قد لا يحدث لا اليوم ولا غدا ولا بعد عمر طويل. ومن لديه علم بغير هذا فليقله، ولكن بعقلانية وواقعية، وبلا خيال.