تراث جمعي لا فئوي
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
لعلّ العِلّة الفاشية، اليوم، والتي لا سبيل إلى استقامةِ أمْرِ علاقة العرب والمسلمين بموروثهم إلاّ بعلاجها، هي ظاهرة احتكار ذلك الموروث من قِبَل فريقٍ واحد في المجتمع، والتّنزُّلِ منزلةَ السّادن له، والنّاطق الوحيد الحصريّ باسمه؛ أكان الموروث ذاك دينيّاً أو فكريّاً أو حضاريّاً. ولا يكتفي المدّعون هؤلاء بادّعاء ما يدّعونه فحسب، بل تَرَاهُم ينتدبون النّفسَ لمنع غيرهم من الكلام على التّراث، بزعم عدم كفايتهم وأهليّتهم للحديث فيه؛ وقد تجد منهم كثيرين يحملون فعْلَ المنْع على قدْرٍ من العنف والقمع يمارسونهما على مَن حسبوه مزاحماً لهم في شأنٍ &"مخصوص&" لا يَشْرَكُهم فيه أحد!
وعندي أنّ بعض أسباب التّنطُّع في ادّعاء التّمثيل الحصْريّ للتّراث، عند من يسلكون ذلك السّبيل، مردُّه إلى إعراض القسم الأعظم من النّخب الفكريّة، المنتسبةِ إلى الحداثة، عن الانهمام العلميّ بمسائل التّراث، وانصرافِ جزءٍ من كلامها عليه إلى القدْح فيه والتّشنيع عليه، وعدِّهِ رديفاً للظّلمات والتّخلّف. وليس المهمّ في هذا الأمر إنْ كان خطابها العدائيّ والعَدميّ تجاه التّراث مستفِزّاً للتّيارات الأصاليّة، وموجعاً أحياناً في تَلَذُّع نبرته الهجوميّة، دافعاً بها إلى ردِّ فعلٍ إنكاريٍّ أَشدّ، وإنّما الأهمّ أنّ هؤلاء بإعراضهم الإراديّ عنه، وإعلانِهم إنكارَه، إنّما يتركون السَّاح خِلْواً للأصاليّين من غير منافس، كي يستحوذوا على الموروث ويُقْطِعوه لأنفسهم إقطاعَ تمليكٍ وإقطاعَ استغلالٍ في الآن عينه. وربّما رسَّخت لديهم انكفاءةُ هؤلاء الحداثيّين الخدائِج عنه يقيناً عندهم بأنّهم وحدهم أهْلُه وورثَتُه وذوو الحقّ في تقديم روايتهم عنه بما هي الرّواية الرّسميّة الوحيدة.
ولكنّ سبباً آخر عميقاً أَجْدر بأنْ يُوخَذ في الحسبان - عند محاولة فهم نازلة احتكار الموروث من قِبل ذاك الفريق - من سببٍ عارضٍ مثل موقف بعض الحداثويّين من التّراث: أعني به نوع الثّقافة التّقليديّة التي تُمْسِك بتلابيب وعيهم الماضويّ تَلْبيباً تَلبيباً، فتصوِّر لهم أنّهم يحفظون الماضي بعقلهم المحفوظ في الماضي، وأنّهم منذورون لسدانةِ موروثٍ نفيسٍ من الاندثارِ والتّلف تحت وطأة العصر والحداثة، وهُم وحدهم مَن يَقْوَوْن على ذلك ويقتدرون لوفائهم لذلك الموروث، وسعيهم الدّائب في إطالة عمره ولو كَرِه التّاريخ. هذه اليقينيّات - وللمرء أن يستخرجها ممّا يكتبونه في الموضوع - هي ثمرة تلك الثّقافة التي يصدُر تفكيرهم عنها، والتي تزيّن لهم أدوارهم التي أوكلوها إلى أنفسهم!
على أنّنا، بعد هذا كلِّه وقبلَه، مدعوون إلى الانتباه إلى ما يَطْفِر من ذلك التّولُّهِ والولَعِ الشّديدين بالموروث، عندهم، من دلالات: إنّه ليس قرينةً على عشقِ عاشقٍ لموروثٍ هو من سلالته ونسْله فحسب، ولا علامةً على شعورٍ مّا بالحرص عليه من أن تنال منه أحكام الحاضر والتّاريخ والتّطوّر، بل هو فوق ذلك كلّه تعبيرٌ عن الإدراك الحادّ - لدى الأصاليّين التّراثويّين - للفوائد والعائدات الجزيلة التي يمكن أن تنجُم من عمليّة الاستيلاء عليه واحتكاره واحتكار تأويله.
وإذا كان الاستيلاء على الماضي - كما كتبنا مرّةً - هو أقصر طريق إلى الاستيلاء على الحاضر، كان لا مهْرب من إزاحة مَن ينافسون على ذلك الماضي من المشهد، ليخلُص لهم الاحتكار ويستتبَّ أمرُه. وإذا كان موقف العدميّين الحداثويّين يسَّر عليهم المعسور، فخلَت لهم بذلك السّاح: ساح التّراث، فإنّ قسماً آخر من أهل الحداثة - سويَّ العلاقة بتراثه - هو مَن دَفَع ضريبَةَ ذلك الإخلاء الذي مكَّن من الاحتكار؛ فلقد أُخِذَ بجريرة أولئك العدميّين فمسّه ما مسّه من أفعال المنع والتّضييق من الفريق المحتكِر، ولكن من دون أن يسلّم له بشرعيّة الاحتكار.
التّراثُ العربيّ الإسلاميّ، بغثِّه وسمينِه، بعُجَرِه وبُجَرِه، بنصّيّته وعقلانيّته، تراثُ العرب والمسلمين أجمعين، لا تراث فريقٍ واحدٍ منهم يبغي احْتيازَهُ رُمَّةً وحده. ولأنّه تراث جمعيّ، شأنه شأن أيّ ميراث منحدر من الآباء والأجداد، بَطَلَ أن يتحدّث عنه البعضُ باسم الكلّ ونيابةً عن الكلّ، أو أن يتصرّف فيه على مقتضى الهوى والمزاج؛ فالكلامُ عليه منهم لا يُلزِم أحداً غيرهم. إنّ السّطو الفئويّ على تراثٍ جمعيّ سرقةٌ موصوفة، أو شيءٌ بهذه المثابة، ينبغي أن يتوقّف وأن يقع الاعتراف الجهير بأنّ الأمر يتعلّق بمُلكيّةٍ جماعيّة ليست قابلة للتّفويت.
من نافلة القول إنّ مثل هذا الاعتراف في حكم الممتنع المستحيل صدورُه عمّن وجدوا في التّراث الضّالةَ الإيديولوجيّة، والموردَ الذي لا ينضب للاستغلال، ولا طائل من انتظاره منهم؛ فلقد أخذوا التّراث من الأمّة بالقوّة (الإيديولوجيا)، ولا يمكن أن يُستَردّ بغير القوّة (المعرفة). لذلك لا مَهْرَب للجسم الحيّ من الباحثين والمفكّرين العقلانيّين والنّقديّن من اقتحام هذه المناطق التي يراد لها أن تكون ممنوعة، ليضخّوا الحياة في النّظر إليها متسلّحين بالمعرفة والحسّ النّقديّ، أملاً في أن تجترح سرديّتُهم العلميّة عن التّراث المكانةَ التي تليق بها في مواجهة كثبانٍ من الرّمال الإيديولوجيّة التي تسدّ الأفق.