الوعي النقدي والوعي المجتمعي
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
مهمة النقد تتلخص في توجيه المنتج المعماري، وما يتبع ذلك من توجيه للقرارات التي تنتج العمارة، وفي صناعة وعي على مستوى المجتمع يساهم في توجيه المنتج المعماري ويهذبه..
خلال الشهير الأخير وجدت نفسي داخل دائرة النقد المعماري بما تمثله هذه الدائرة من زخم تعليمي وفهم خاص وعميق للحراك الاجتماعي والثقافي ومتابعة لمسببات اتخاذ القرار العمراني، وكان ذلك من خلال مقابلتين أجريت أحدهما مع "بود كاست"، والأخرى مع الأستاذ عبدالله المديفر في برنامجه الحواري الأسبوعي في "في الصورة". أما الحدث الآخر هو أنني قدمت ورش عمل حول النقد المعماري على مدى 3 أسابيع، تضمنت 10 ورش امتد كل منها لمدة 3 ساعات لمجموعة من المهتمين بالعمارة من مصممين ودارسين في مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي "إثراء" التابع لشركة أرامكو السعودية. هذا الزخم النقدي جعلني أتذكر سلسلة من 3 مقالات كتبتها في صحيفة "الرياض" في نهاية القرن الماضي كان عنوانها "العمارة وتشكيل هوية المتلقي"، وأعيد نشرها في كتاب "من المربع إلى العذيبات" وهو من إصدارات كتاب الرياض عام 2001م. ركز المقال المبكر على أهمية العمارة وعلاقتها بالمجتمع، وكيف أنه يستحيل أن تتطور عمارة ذات قيمة دون مجتمع يعي أهميتها ويقدرها، وقبل ذلك يطلبها ويدفع المعمارين كي يطوروا من قدراتهم من أجل إنتاجها.
شعرت بأن هناك تصاعد في الاهتمام بالعمارة والعمران في الآونة الأخيرة، فرغم مرور أكثر من عقدين على كتابة المقال إلا أن الحراك النقدي لم يتطور أبدا، وظل يراوح مكانه حتى السنوات الأخيرة عندما بدأ جيل من الشباب يعي أهمية الكتابة المعمارية وصناعة وعي إعلامي يجذب أفراد المجتمع ويوجههم. وإذا كانت مهمة النقد تتلخص في توجيه المنتج المعماري، وما يتبع ذلك من توجيه للقرارات التي تنتج العمارة، وفي صناعة وعي على مستوى المجتمع يساهم في توجيه المنتج المعماري ويهذبه، فهذا يعني أن خلق ثقافة وذائقة تستطيع أن تساهم في زيادة قدرة الناس على رؤية الأشياء بشكل أفضل أصبحت ضمن الوعي الإعلامي السعودي المعاصر، خصوصا مع تطور وسائل الاتصال الاجتماعي وتغير قواعد اللعبة كليا في إيصال الرسالة الإعلامية بشكل عام.
أكثر الرسائل والاتصالات التي وصلتني بعد حوار "في الصورة" أن هذا اللقاء يمثل تقديراً للعمارة والمعماريين، ويبدو أن هذا الشعور لم يكن لدى المتخصصين فقط بل لدى كثير من الأصدقاء الذين رأوا أن العمران يحتاج إلى مثل هذا التقدير. ولا أستطيع أن أنكر أن هذا الوعي كان حاضراً لدى إعلامي كبير مثل الأستاذ عبدالله المديفر، الذي قال لي قبل بدء اللقاء أن ما أصبح يفكر فيه في الوقت الرهن هو "الإعلام التخصصي"، أي أنه يرى أنه من الضروري في الوقت الراهن أن يتحول التركيز من القضايا العامة إلى القضايا التخصصية التي برع فيها كثير من السعوديين في مجالاتهم العلمية والفكرية، حتى تواكب التحولات الكبيرة التي تعيشها المملكة مع رؤية 2030. لقد فاجأني هذا التحول في الوعي الإعلامي، لأني أذكر أن جميع محاولات خلق إعلام معماري لم تنجح، فصفحة العمران والتنمية في جريدة "الرياض" التي بدأت عام 1996م، وصفحة المجتمع والعمران في جريدة "اليوم" التي بدأت في السنوات الأولى من الألفية الثالثة، وغيرها لم تستطع الاستمرار، فهل سيحقق الوعي جديد نقلة نوعية في الوعي النقدي المعماري في السنوات القليلة المقبلة؟
إحدى الورش في إثراء كانت حول الكتابة النقدية التلقائية، وتضمنت أن يقوم المشاركون في الورشة بكتابة مقال من 300 إلى 500 كلمة حول علاقتهم بمبنى إثراء، مع التعبير عن أفكارهم بالرسومات الحرة، وقلت لهم إنه ليس من الضروري أن تكون الرسومات متقنة، لأنه ليس من مهمة المعماري أن يتقن الرسومات بل أن تكون في الحد الأدنى الذي يمكن أن تعبر فيه عن الأفكار التي تجول في خياله. ويبدو أن نتيجة هذه التجربة بينت للمشاركين الفجوة بين ما يدور في الذهن والقدرة على التعبير عنه، وأن هذه الفجوة لا يمكن تجسيرها إلا من خلال "لياقة الكتابة"، وكذلك "لياقة الرسم" بالنسبة لأي مصمم، وربما لغير المصممين، وأن ما قد يعتقده البعض يسيراً يصبح صعباً عند تجربته، بكل تأكيد أنا مع هذه التجارب كما أنني على قناعة أن اكتشاف صعوبة التعبير عن الأفكار هو بداية تكوين الناقد.
يمكن أن أقول: إن تجارب الشهر الأخير جعلتني أشعر أننا أمام تحول حقيقي في وعي المجتمع بالعمارة، ورغم أن مؤسسات التعليم المعماري، وربما حتى تعليم التصميم والفنون لم تعي أهمية النقد بعد ولم تفكر في إدراجه ضمن مناهجها، إلا أن تصاعد اهتمام كثير من الشباب والشابات بمناهج التفكير النقدي ومحاولاتهم الجادة كي يخوضوا تجاربها ويتجاوزوا صعوباتها أمر يستحق التقدير ويبعث على التفاؤل.