قراءة تأملية في رواية (الحياة في مدينة لا توجد)
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
أزور بين حين وآخر مدينة جدة، وكانت الغاية من تلك الزيارات التواصل الثقافي والدراسات والكتابات التي تتصل بمجال اختصاصي وبخاصة في حقل السير الذاتية، وكنت في أثناء كل زيارة أقوم بزيارة بعض الشخصيات العلمية والأدبية والثقافية، ففي إحدى زياراتي لمدينة جدة حرصت على زيارة المهندس الدكتور عبدالله بخاري وهي جزء من برنامج زيارات علمية لكتاب كنت أحضر لمادته العلمية.
ليس لهذه الأسباب أتحدث عن المهندس الدكتور عبدالله بخاري ولكنني وجدته متوجها في حياته على نمط مختلف عن الآخرين، فقد تلقى في السبعينات الميلادية تربية تقليدية وحديثة في آن واحد لعبت دورا جوهريا في تشكله وكانت عاملا حاسما في تكوينه الذهني والفكري.
فقد كان عبدالله ينتمي إلى جيل بلغ النضج في مطلع حياته مدركاً قيمة التعليم ونظرياته فسار في طريق العلم الحديث، كانت لحظة انبهاري بالرجل بدأت من عند ذلك التكوين الأنيق (آركي بلان) والذي يقع في حي الشاطئ، والذي يعد قطعة معمارية رائعة ترى فيه ذوقا هندسيا رفيعا وجاذبية خاصة، فقد كان مزيجاً مدهشاً من الهندسة والأناقة فإذا ما أخذت المبنى من إحدى زواياه رأيته قالبا من جمال يضفي على خيالك خيالا آخر، حينها تقف متأملاً تقلب بصرك في هذا التكوين المعماري البديع، فالمهندس الدكتور عبدالله بخاري يخضع الواقع الموضوعي إلى وعاء فني جذاب، فالفن عنده يمتزج بالواقع إن لم يكن يطغى عليه، وهنا بالذات تقرؤه روحا مرهفة ونمطاً نموذجيا للنزعة الفنية المثالية.
فقد كان المهندس الدكتور عبدالله بخاري يهتم بنوعية حياته ويقيم هذه النوعية على مرتكزات أخضعها لمرجعية علمية وفنية عصرية، فقد كان مفكرا فنياً يتحسس الجمال الفني ويمتاز بالتفكير العلمي الحديث والذي لعب دور القوة الدافعة في تشكله وتكوينه.
فعلى المستوى المنهجي فقد درس المتوسطة والثانوية في مدارس القاهرة أثناء مرحلة التحديث التي طالت المجتمع المصري ومن بينها التعليم، ودرس الهندسة المعمارية في ألمانيا وأنهاها في جامعة الملك سعود، ومن ثم معيدا في جامعة الملك فهد للبترول والمعادن.
في عام 1973م حصل على درجة الماجستير في العمارة من جامعة هارفارد.. وفي علم 1975م حصل على درجة الماجستير في التصميم العمراني من جامعة هارفارد.. وفي عام 1978م حصل على الدكتوراه في العمارة من جامعة بنسلفانيا، وقام بتدريس العمارة والتصميم في كل من: جامعة الملك فهد للبترول والمعادن وجامعة الملك عبدالعزيز وشارك في تأسيس كلية تصاميم البيئة في جامعة الملك عبدالعزيز، وكان أول عميد لها، حاضر في مؤتمرات عالمية عن العمارة وشارك في ندوات متخصصة في التطوير الحضري والعمراني ونشر أبحاثاً ودراسات في العمارة والتخطيط.
وقد شارك أثناء دراسته للدكتوراه مع شركة كندية في تصميم جامعة الملك عبدالعزيز وذلك عندما أوصت به جامعة هارفارد، فعلى الرغم من التنوع الذي يميز تجاربه إلا أن العمارة لعبت دورا مهما في حياته العلمية والمهنية، وكانت الصيغة الأكثر شمولية والتي شكلت القاعدة المركزية في تجاربه.
فالتطور المبكر الذي حدث له في السبعينات الميلادية خلق له ظروفا وفرصا ملائمة للنضج والوعي مستلهما بطريقته الخاصة الصيغ العالمية للوعي، وهذا ما ميز تجاربه بشكل واضح وحقق له قمة تطوره بدرجة أكبر من الكمال.
باختصار كان مهندسا معماريا بالمعنى التطبيقي للكلمة.
إلا أن المهندس الدكتور عبدالله بخاري لم يكتفِ بالعمارة ونظرياتها وتطبيقها، فقد أظهر ميلا نحو الرواية وأدخل عليها أساليب تعبيرية جديدة وأغناها بالصورة الفنية والفن التعبيري الحديث، ففي روايته (الحياة في مدينة لا توجد) -التي أهداني نسخة منها- خلق صيغا تعبيرية جديدة دمج فيها الأصناف الأدبية بالأدوات والمفاهيم المعمارية ونسجها على وحدتي الزمان والمكان، والتي يروي فيها قصة طفل صغير يقطع تقريبا منتصف المدينة حاملا معه ثلاجة صغيرة مليئة بقوالب الثلج إلى أحد البيوت المشرفة على البحر في رحلة طويلة تبدأ من حارة البحر القديمة ليقطع فيها الصبي الصغير أحياء وفراغات وطرقا ومنعرجات وممرات ضيقة، كان يعيش المدينة بصوتها وصمتها ورائحتها ولونها وطعمها.
الرواية تعكس أدوات ومصطلحات من الفن المعماري والفن الروائي: الكتل الفراغ النسب الضوء الظل انكسار الضوء اللون، فالأسس الفنية للفن المعماري الروائي وجدت تعبيرها في الرواية فيما يعرف بفلسفة الفن.
وكانك ترى الرواية على صفحات مرايا عاكسة تشكلت عن طريق المزج بين الخصائص والأدوات المعمارية والأدبية، وهو مزج بين جماليات متنوعة بوصفه طريقة في التعبير الفني ترى فيه صورة الإنسان وعلاقاته المتشابكة مع البيئة والطبيعة.
يقول فلوبير "إن الفن ليس هو الواقع، إنك مهما فعلت لا بد لك من القيام بانتخاب ما تراه مناسبا من العناصر التي يقدمها لك هذا الواقع".
ومهما كان التصور للواقع مقعدا أو بسيطا سطحيا او عميقا ملموسا أو مجرداً فإن إلهامات الفنان هي التي تعيد خلق الواقع خلقا فنيا.
فالواقع الموضوعي يجد انعكاسه في التصوير الفني وفي أكثر الصور إغراقا في الخيال وهي التي كونت جوهر الرواية وروحها وجسدت فكرها من خلال التحام ثقافتين معا الثقافة المعمارية والثقافية الأدبية.
فإبداع الكتاب أو المعماريين يتجه للتأمل المباشر للواقع، فقد صورت رواية (الحياة في مدينة لا توجد) المكان والزمان تصويرا صادقا وصاغت بيئة وطبيعة مجتمع الرواية صياغة فنية، وبالذات تصويرها للأحداث والأشخاص على مساحة مكانية وزمنية تداخلت مع بعضها.
فالطفل الشخصية الرئيسة في الرواية هو المرآة التي ينعكس عليها الزمان والمكان، فقد كان يعرض الحياة اليومية لذلك الزمن البعيد، وإن كانت المشاهد تتبدل أمامه إلا أن طبيعته ثابتة من خلال نسق الصور الفنية المتعاقبة التي وجدت انعكاسها الفني في حركته.
تعد رواية (الحياة في مدينة لا توجد) نموذجا روائياً لزمن مضى مؤسسا على الحركة والزمان والمكان والظروف والبيئة معبرة عن سيادة الزمان والمكان على الدوام وأن كل ظاهرة حادثة عابرة وموجة يجرفها تيار الزمن. فقد كانت الرواية تسجيلا وتجسيداً للحظة العابرة.
فأبطال هذه الحكايات -على حد وصف الدكتور عبدالله بخاري- ليسوا أفرادا، أو جماعات، بل هم أيضا المكان.. والزمان. حكايات عن زمن جميل مضى في أماكن رائعة.. بقيت بعض ملامحها، وعبق رائحتها.. رغم كل ما شاهدته من تغيرات.
هذه الحكايات هي تصوير وانعكاس لذلك الماضي الحميم، الذي كاد أن يندثر، بكل ما فيه من أحاسيس نقية، ومشاعر صافية، لتبقى ذكراه ما بقيت القلوب تنبض، ربما هي محاولة يائسة لنقل تلك الصور الباهتة إلى فكر وعاطفة من لم يسعده الحظ لمعاصرة ذلك الماضي الحنون، بل وربما هي مجرد تحايل على الزمن الذي لا يقهر؛ لإبقاء مظاهر تلك الصور القديمة على قيد الحياة، في قلوب أجيال حرمت من ذلك الصفاء الذي كان يصبغ كل مظاهر الحياة البسيطة النقية، لتنتقل إلى عالم معاصر، تسوده الماديات، ولهفة التملك، وزيف الأحاسيس.
ويبقى السؤال: هل حياتنا العصرية ما هي إلا الجري حثيثا وراء أوهام؟ وهل السعادة هي أحداث مصطنعة ومؤقتة وفردية؟ أم هي إحساس مشترك متأصل، تمتد جذوره في أعماق المكان.. والزمان.. والإنسان؟