جريدة الجرائد

الطاقة الإنتاجية: هذه المرة الذيب بالقليب

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

في إحدى ندوات الطاقة التي تعقدها جامعة &"أكسفورد&" كل صيف، وضعني الصديق الراحل الأستاذ روبرت مابرو، عرّاب الندوة، في حفل العشاء إلى جانب السير جون براون رئيس الشركة البريطانية للبترول، وقال لي إن هذا بناءً على طلبه، مع أنني قد تركت وزارة البترول في المملكة العربية السعودية. كان الحديث مع السير جون ممتعاً، بعد نقاش متشعب عن المملكة وسياستها البترولية ودورها في إنشاء &"أوبك&" وحماية السوق، حتى وإن بدا ذلك على حساب مصالحها في الأمد القصير، سألته: سير جون ماذا قد يحدث لك لو أنفقت خمسة آلاف دولار لتطوير برميل من البترول، في مرفق طاقته نصف مليون برميل في اليوم ثم أقفلت هذا المرفق أو كممته (Mothballing) كما يقولون في الصناعة؟ أجابني وهو يبتسم: &"كنت سأفقد عملي في اليوم التالي&".
تلك هي الطاقة الإنتاجية التي تحدث عنها الأمير عبد العزيز في الحلقة الثالثة عشرة من برنامج &"حكاية وعد&" في قناة الـMBC، كان الأمير يتحدث عن هذه الظاهرة، كأنه ممسك بسيف يُخرجه من غمده ثم يُعيده ثم يخرجه، وهكذا دواليك.
الطاقة الإنتاجية هي مقدرة آبار النفط على الإنتاج لمدة معينة دون الإخلال بسلامة المرافق، وتعد الأداة الفعالة التي تستطيع التحكم بحركة السوق صعوداً وهبوطاً.
ومن يتابع تقارير شركات النفط يلاحظ أن ميزانية التطوير والتنمية تستأثر بالنصيب الأوفر من الميزانية الرأسمالية للشركة.
وتولي شركات النفط الوطنية والعالمية أهمية قصوى لهذا الجانب في خطط عملها، فهي تنفق الأموال لزيادة الطاقة الإنتاجية وتصرف للمحافظة على مستواها، كما تنفق على الحد من تدهورها. ويلاحظ القارئ أن عنصر الاستدامة هو المحكّ فيما يعرف بمصطلح &"Maximum Sustainable Capacity&" أو (MSC)، لكن الفرق بين شركات النفط الوطنية والحكومية يكمن في أن شركات النفط العالمية تبني الطاقات الإنتاجية لتنتجها فوراً كما يُفهم من حديث السير جون، بينما تبنيها الشركات الحكومية لأغراض أخرى.
تحدث الأمير وهو ممسك بزمام الموقف بكل حزم عن كيف بلّغ التعليمات، وكيف كان وقعها على فريق الإدارة بالظهران.
كان الأمير يتحدَّث كأنَّه يُلقي محاضرة من فصلين أحدهما عن الصناعة البترولية في المملكة، وما بلغته من نضج بعد التملك ثم الفصل الثاني وهو عن السياسة البترولية للمملكة، التي تستمد نفوذها مما وصلت إليه هذه الصناعة من تقدم بفضل السياسة العامة للدولة، ومن أفضالها النأي بهذه الصناعة منذ عهد الملك المؤسس إلى عصرنا الحاضر عن عواصف السياسة وردود الفعل قصيرة النظر، كما أن من أغراضها حماية السوق من التقلبات الضارة بواسطة هذا الحارس الأمين وهو الطاقة الإنتاجية الفائضة. وقد وفّاها الأمير عبد العزيز حقها من الشرح، بشكل يدعو للإعجاب.
أعود إلى ذكرياتي التي يرمز إليها عنوان هذه المقالة، إذ يبدو أن الليلة ليست شبيهة بالبارحة.
في شهر ديسمبر (كانون الأول) 1976، عقدت &"أوبك&" مؤتمرها العادي في مدينة الدوحة &- قطر، وهو مؤتمر شهد أول خلاف بين الدول الأعضاء كانت إيران ممثلة بالوزير جمشيد أموزيقار تقود موقفاً من أغلب الدول الأعضاء لزيادة السعر المعلن عند حد معين 10% ثم 15% بعد ستة أشهر، وكانت المملكة والإمارات تريان زيادة السعر بمستوى أقل وهو 5%، وأذكر وأنا ضمن الوفد في تلك السنة أن الوزير السعودي غادر الاجتماع إلى الرياض للتشاور مع المغفور له الملك خالد، وولي عهده الأمير فهد، رحم الله الجميع، وعاد بالتمسك بموقف المملكة، وصدر بيان بموقف الطرفين، وغاب الوزير السعودي عن الجلسة الختامية، وله عذره، من دون الدخول بالتفاصيل، ثم صار الحديث عن تهديد المملكة بإغراق السوق، ونقلت جريدة &"نيويورك تايمز&" 15 يناير (كانون الثاني) 1977عن الوزير الشيخ أحمد زكي يماني، رحمه الله، قوله إن المملكة ستزيد الإنتاج بنسبة 50%، وكانت هذه أول مرة تحاول فيها المملكة استخدام طاقتها الإنتاجية الفائضة لفرض موقف بترولي معين.
الذي حدث بعد ذلك أن &"أوبك&" اصطلحت واتفقت على زيادة موحدة، ثم توّجت ذلك بعقد مؤتمرها في منتصف عام 1977 في مدينة أستوكهولم بدعوة من الحكومة السويدية.
هل كانت المملكة قادرة في ذلك الوقت كما كان شائعاً على استخدام طاقتها الإنتاجية لترويض الآخرين، كما نجحت في أبريل (نيسان) 2020، أم أن الأمر مختلف؟ يبدو هذه المرة من حديث الأمير أن الذيب بالقليب.
الذي أعرفه أن تلك الأحداث في ديسمبر (كانون الأول) 1976 كانت أحد الأسباب التي جعلت المملكة تنفرد بسياسة بترولية تختلف عن أغلب الدول، وهي أن كثيراً من معالم هذه السياسة يأتي من رأس السلطة والأمثلة كثيرة. وهذا هو ما أقصده عندما أقول أحياناً إن دور القيادة السعودية في رسم السياسة البترولية في المملكة هو دور منشئ لا مقرر.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف