جريدة الجرائد

سيرة الحب والحرب .. حكايةُ سيرة تثيرُ أوجاعنا

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

لا أتذكّرُ أنّ سيرة إبداعية أسّرت حواسي، واستغرقتني بشغف متواصل حتى سطورها الأخيرة، كما فعلت "بلدي تحت جلدي - سيرة الحب والحرب" للكاتبة المناضلة الساندينية جيوكوندا بيلي. وليس هذا إنكاراً مني لمتعة قراءة العشرات من سِيَرِ مبدعين ومفكرين وفنانين ومناضلين، امتلأت روحي ووجداني بمآثرهم الإنسانية وتدفقاتهم الإبداعية.

وكيف لي أن أتنكر لقناعاتي المتحجرة التي هزتها الفيوضات الإنسانية العميقة لـ"ستيفان زفايج" في "عالم الأمس" الذي أشعر بالحسرة على مثقف أو مبدع لم يقرأه ! وأيّ خجل أشعر به حين أقارن رهافة حسه الإنساني بما يعكسه بعض مثقفينا؛ إذ يكاد وهو يتعامل مع كاتب أو فنان أطل تواً على عالم الكتابة والخلق الفني، أن يبدو هو أمامه كهاوٍ للأدب والفن أو مجرد كاتب مبتدئ! وأي بوحٍ يفضّه بابلو نيرودا في "أشهد أني قد عشت" ليزعزع به فقاعات التابوهات المتكلسة في عقلنا الباطن مثل حزامٍ ناسف يعطل حواسنا كلها، ويحدُّ من تدفق أفكارنا وأحلامنا وهواجسنا وما يثير شكوكنا حول أسئلة لا سبيل لطرحها. وكيف يمكن لي قبل أن أعود لكاتبتي الآسرة بيلي أن أُبْقِيَ في الظل سيرة أريك هوبسباوم "عصر مثير"، هذا المفكرٍ والمؤرخ الماركسي العظيم الذي أرّخ مائتي سنة من تاريخ العالم في رباعيته "عصر الثورة 1789- 1848" و"عصر رأس المال 1848- 1875" و"عصر الإمبراطورية 1875- 1914" و"عصر التطرفات 1914-1991". ويكاد يكون في سيرته والقيم التي يتمثل بها، وهو يعيش قبل أن يرحل الى أبديته في "مجتمع الوفرة" قبل أن يتفكك، في عالم القطبية المهيمنة الطاردة؛ يكون مثلاً أعلى لمن يدّعي التصدي لتغيير العالم ليصبح آمناً تشيع في ظلاله العدالة الاجتماعية والحرية والمساواة .. وقبل غيرهم، يجدر بكل شيوعي أو ذي نزوعٍ لقيم العدالة والاشتراكية أن يبادر لقراءته ليتحول انتماؤه السياسي إلى إيمان قيمي عميق!

لن أغالي إذ أكتب أن الأجيال الجديدة التي تجد نفسها محاصرة بعامل ضيق الوقت، والانشغال بما هو حاجة حياتية تحول دون تمكينهم من قراءة ما يعتبره البعض مضيعة للوقت، كالقصص والروايات والشعر وسواها من معين الأدب والتاريخ، لا تبحث لها عن ملاذات للشغف والإمتاع في المذكرات والسير الذاتية على تعدد ميادينها وتنوع أجناسها؛ إذ هي تشكل تعويضاً يختزل عوالم تزخر بالجمال والقيم الإنسانية والتعرف على الآخر والتشويق بكلّ مافي الحياة والمجتمعات والثقافات من تناقضاتٍ وتماثلاتٍ وأبطالٍ وأشباه بشر وإنتصارات وهزائم.

من حسن طالع الأجيال الجديدة أنّ كتب "البوح" التي تكشف عنها المذكرات والسير الذاتية وماتفتحه من خفايا وخبيئات وعوالم، بات أغلبها عصياً على الانزياح والمنع، تتسلل عبر مواقع التواصل والإتاحة الإلكترونية، إن شاء حظها أن تتعثر بالوصول ورقياً.

في حالة إبهارٍ لم ينقطع، أضيفت على السرد بمنحاه الروائي، براعةُ المترجم أحمد عبد اللطيف وانسيابية ترجمته الرائعة، وصياغاتها التي أضفت طاقة تصويرية على مناخاتها وهي تتنقل من حالة إلى أخرى ، ومن مناخ شخصي وعائلي إلى عالم السياسة والنشاط السري وتحولات النضال المسلح ومايتطلبه من جسارة وحضور يقظ واحتراز واستعدادٍ لتحدي الأخطار ومواجهة العسف والاعتقال والاغتيال والموت! ؛ لكنها وهي تتدفق بجمالية أخاذة، تغزل الكاتبة أفكارها وتخيلاتها، وتحمّلها بتشبيهاتٍ لاتشعرك بأي افتعالٍ أو إقحامٍ ولا عسرٍ في الإقتران ، ويظل السرد مسنوداً بما يقابل الافكار والتخيلات بالتشبيهات على مدى الكتاب كله، كأن الكاتبة تريد أن تنفض عنها عبئا يزدحم في عقلها ومنابع ابداعها ويعطل طاقة فك الأسر عما تخبئ من طاقة البوح الحر المنطلق دون تزاحمات الإكتظاظ .

تحيك الكاتبة مشابك حياتها الشخصية بطلاقة وحرية في التعبير. لا تجد فيما تبوح به مسامة تخفي تحت نتوءاتها ما يشي بالالتواء أو التزييف والادعاء. إنها تقول كل شيء بشفافية تجسد كل مافي الصدق من معنى. وما هو مهم أيضاً أن ما تبوح به من مكاشفات ذاتية حول عشقها وعشاقها وحتى حول حياتها الجنسية، تتجلى في صياغاتٍ لا تخدش الحياء أو تظهر في صياغاتها مفعمة بصدق حسي منزّه من الدنس الذي تنعكس فيه الممارسات الجنسية خاصة عند الكاتبات ، وهو مالاتتحسسه أو تشعر به وأنت تقرأ سرد بيلي وهي تحكي ببراءة مَنْ تَعرِضُ وقائع طقس لاترى فيه مايستدعي الحياء، ربما ليس بمعزل عن قبول مجتمعي منفتح.

وهي تكتب بوعي وصدق يجعلك مغيباً عن التفكير أو التوقف عند ماإذا كان الفعل يقتضي الانتباه أو الإنكار. إنها إنما تضع ذلك في سياق سرد يتفاعل مع وقائعه دون فاصل لِتَدخُّل من خارجه ودون صياغات "مكيّفة" أو مواربات تعطل فعل التأثير على حساسية القارئ للانتباه أو الاعتراض.

دون إعلان أو مفاتيح صياغية، تكرس جيوكوندا -الأورغوانية الموطن، الساندينية الانتماء السياسي، البرجوازية الانحدار الطبقي- كل جوارحها بوعي فكري وإحساس بالعدالة للعمل بالضد من دكتاتورية سوموزا التي دامت أربعة عقود وخمس سنوات وراح ضحية المواجهات معه عشرات الآلاف من الشهداء والمعاقين والجرحى مع خراب كامل للبلاد.

وأنت تقرأ وتتداعى بصرياً فإنّك تتمثل الأحداث والوقائع بشخوصها وتمثلاتها "صورياً" كأنك تتابع فيلماً بإخراج وتصوير وكذلك بسيناريو مبهر لايقاوم أو يثير الملل حتى من تفصيلة صغيرة، تحت دقة وجمالية وانسيابية السرد وترجمتها الأنيقة، كأنها نصٌّ موضوع بذاته. وما يجعلك في حالة انسجام لا ينقطع، براعة الكاتبة في إشغال القارئ بثبات وتفاعل وهي تقوم بخلق وشيجة متداخلة من عنصري قص حكايتها الذاتية بالتلازم والتداخل مع تطور الحركة الساندينية وكفاح وطنها، وهما يتكئان الواحد على الآخر في عملية اندماج عضوي لا ينفصم.

أخذتني رعشة خاطفة وأنا أتابع سردها للقاءات مع فيديل كاسترو وشقيقه، والجنرال عمر توريخوس "بنما" وتحرشات بعض القادة ومراودتهم لها ، ولقاءاتها بعشرات الكتاب والشعراء والفنانين من أميركا اللاتينية ، وكيف توقّفت عند مفهوم الذكورة وإقصاء المرأة في بلد يتحرر ثم ينكفئ على مفاهيم نهض ليتجاوزها.

هل أتابع الحكاية لإغواء القارئ وحرمانه من متعة الإمساك بامرأة كاتبة، شاعرة، تختار الانتماء للمستقبل وهي في حالة بوح آسر؟ لم أجد نفسي منحازاً لهذه السيرة لأنني وجدت في فصولها وماآلت اليه تجربة ثورة مسلحة أطاحت بالدكتاتورية، بالقوى الذاتية لشعبها وقواها الثورية وهي تكاد تكون على ناصية قريبة من الولايات المتحدة؛ لكنني لاأخفي حالتي وأنا أقرأ بألم وحسرة وصفاً لم أستطع إزاحتهما وأنا أضع لها مقاربة مع ما رأيته في بغداد وأنا قادم إليها بسيارة عابراً الخابور في أحد الأيام بعد إطاحة الدكتاتور ، وليس بمجاورة مع دبابة أميركية.

قرأت وأنا أستعيد بكائي يومذاك، ببكاء لم ينقطع وأنا أتابع العاصمتين وهما تبدوان مهجورتين، إحداهما تختلط فرحتها باحتلال جائر ، والأخرى تبكي على ضحاياها وتستعد لبناء بلدها بعد أن تحرّر بسواعد مناضليه.

بغداد كانت مثل ماناغوا: الأولى مفككة الأوصال تعبث فيها الفوضى، والثانية هي أيضاً مفككة؛ لكنها تمسك مستقبلها بسواعد أبنائها:

"هكذا كان فراغ السلطة الذي وجدناه: وضع مطموس وحساب جديد . لم يكن للدولة وجود ؛ لقد انحلت تماماً . ما مِنْ برلمان ولاجيش ولاوزارات. لا شيء إلا مكاتب مهجورة وكتائب خالية على عروشها. كان شعوراً غريباً وجودُ محاربين متمردين كانوا منفيين حتى اليوم السابق، فجأة نجد أنفسنا كشاب صغير السن في مدينة هجرتها السلطة القديمة، وأدركنا أننا بداية من تلك اللحظة يقع على عاتقنا قرار كل شيء".

"كانت المدينة (ماناغوا عاصمة نيكاراغوا صباح اليوم الأول من هروب الطاغية وشلته) في فوضى منتشية إلى حد أن الأناركية استلبتها. راح الفقراء ينهبون البيوت في أحياء الأثرياء والعسكريين المهجورة ، وتحفّظ المحاربون بقبعات حمراء فَي سوداء على السيارات التي خلّفها السوموزيون وراءهم بعد فرارهم.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف