جريدة الجرائد

قرار منع العباءة في المدارس الفرنسية مرّ بسلاسة نسبية!

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

على رغم النقاش المحموم، وردود الفعل المؤيدة أو المنددة، أتى قرار وزير التربية الفرنسي غابريال آتال قبل بدء العام الدراسي 2023 حظر ارتداء العباءة في المدارس والمؤسسات التعليمية العامة الفرنسية بمثابة اؤ الذي سبق أن صدر في أيار (مايو) 2004 ومنع ارتداء الحجاب في المؤسسات التعليمية العامة. وقد عبر بسلاسة نسبية وخصوصاً بعدما أكد على دستوريته قرار مجلس الدولة الفرنسي الذي صدر قبل أيام، مغلقاً الباب على أي مراجعة أو محاولة للامتناع عن تنفيذ القانون.

طبعاً كل قرار أو قانون يصدر ربطاً بالمسألة العلمانية، يثير جدلاً واسعاً في فرنسا فيما تعيش أزمة التوفيق بين الثقافات، والديانات، والنظام العلماني المتعايشة على أرضها. فالحقيقة أنه وقبل الحديث عما إذا كانت العباءة لباساً دينياً أم لا، ينبغي ربطها بقانون منع الحجاب على اعتبار أنها مكملة له. ولا بد من التذكير بأن أساس المشكلة لا يتعلق بالتشدد في تطبيق مبدأ العلمانية الذي يسري على المسلمين كما يسري على اليهود والمسيحيين وغيرهم في المؤسسات العامة للدولة الفرنسية، بل يتعلق بمتغيرات الديموغرافيا الاثنية، الدينية والثقافية الجديدة في فرنسا.

فعندما طبقت العلمانية كانت الديموغرافيا الدينية في فرنسا مسيحية (غالبية كاثوليكية) مع أقلية يهودية. اليوم تغيرت الديموغرافيا الدينية والإثنية الفرنسية بنسبة لافتة، إذ تفيد الأرقام بشكل عام بأن واحداً من أصل ستة مواطنين فرنسيين هو مسلم أو من أصول غير فرنسية أو أوروبية. إنها نسبة كبيرة في وقت تحاول الدولة الفرنسية العميقة أن تحافظ على إرث العلمانية الذي قام أساساً على مبدأ فصل الدين عن الدولة بعد صراع مرير مع الكنيسة الكاثوليكية. ويعود الصراع الى مرحلة الثورة الفرنسية عام 1789، وما تلاها من علاقات متوترة بين الدولة الفرنسية إبان حكم نابليون مع الفاتيكان، وصولاً الى بدايات القرن الماضي.

وتلافياً للدخول في مطولات تاريخية، لا بد لي من القول، وأنا ممن عاشوا ويعيشون ودرسوا في مدارس فرنسا وجامعاتها، إن القرار الذي صدر بحظر العباءة يعكس مناخاً في المجتمع الفرنسي العميق بمواجهة الشق الآخر من المجتمع من أصول مهاجرة غير أوروبية. وقد أسهمت الأحداث التي تكررت في ضواحي فقيرة ومهمشة من المدن الفرنسية الكبرى بين شبان من أصول مهاجرة والشرطة، في تأجيج المشاعر السلبية الدفينة إزاء هذه الفئة من المجتمع الفرنسي التي لم يتح لقسم كبير منها أن ينصهر في المجتمع الأوسع، ولا أن يشعر أنه حقاً من أبناء هذا البلد، بل ظل الشعور بأنها فئة مهمشة ضائعة بين انتماءين . فهي لم تنصهر فرنسياً، وفي الوقت عينه هي غير قادرة على العودة إلى أصولها البعيدة. إنها فئة حائرة، وفي بعض الأحيان عنيفة، وتعاني من أزمة هوية لا تخفى على أحد. ومن هنا كانت مسؤولية الدولة الفرنسية التي تقوم هويتها على مبادئئ العلمانية المستقاة من مبادئ الثورة الفرنسية أن تجد سبيلاً لخلق مسار استيعابي متدرج لهذا الجزء من المجتمع الفرنسي، الذي لا ينتمي إلى الإرث اليهودي &- المسيحي المكون لمعظم بلدان أوروبا.

حين كنت في المدرسة ثم الجامعة في باريس لم يمرّ عليّ يوم وشعرت فيه أن قضية الفرنسيين من أصول مهاجرة مطروحة بهذه الحدة، وتلبس لبوس المواجهة مع الدين الإسلامي ومظاهره. لكن تلك الأيام انتهت، واليوم يتعاظم حجم اليمين الفرنسي المتطرف على الخريطة السياسية. والرئيس إيمانويل ماكرون يعاني من تراجع في شعبيته، ومشاكله الداخلية والخارجية تتراكم، إلى حد أنه مضطر للموازنة بين الليبرالية الوسطية التي تطبع سلوكه وعهده، وبين مطالب اليمين المتطرف في فرنسا. وقد بات هذا الأخير أقرب من أي وقت مضى من قصر الرئاسة "الإليزيه".

ومن هنا يقيني أن قرار وزير التربية الفرنسي أريد منه، أولاً الدفاع عن إرث علمانية الدولة ومؤسساتها باعتبارها هوية وطنية تاريخية، ثم بعث رسالة الى القاعدة الليبرالية والوسطية الواسعة، وهي متذمرة، مفادها أن الرئيس ماكرون حازم في الدفاع عن إرث فرنسا العميقة. أما الفئة المعنية بالقرار فستبقى شكلاً محط اهتمام النظام العميق، بينما مضموناً ستكون مهمشة ما لم تخرج من حيرتها وغربتها وظلاماتها التاريخية، لتدخل بقوتها السلمية واجتهادها في كل المجالات، في صلب المجتمع العلماني. فالعلمانية تبقى الحل الأفضل المتاح في المدى المنظور.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف