جريدة الجرائد

سادِناتُ الأطلس جاراتُ نخلِ مراكشَ!

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

عندما يحلُ الخراب، لن تجد الورد في الساحات المنكوبة، ستتكسر الجرارُ التي كانت تزدان بألوانٍ حُبلى بالمسرات والبهجة، حينها، تنخسفُ الأرضُ وتصير الحدائق مقابر، والكراسي التي طالما لامست أصابع العشاق وكانت شاهدة على قبلاتهم الحميمة في رحمِ البدرِ المكتملِ، تلك الكراسي يستحيل خشبها توابيت للموتى، فيما الثكالى ينوحون، يستبدلون الغناء بالعزاء، والضحكاتِ بالدموع، ودفوفَ الفرح، بأصواتِ المقرئين يذكرونك بأن الموتَ حق، وأن الكأس التي في يدك يوماً من رحيق مختوم، هي اليوم سمٌ لا يمهلُ شفتيك كي تقولَ الوداعَ!

كانت الأمهات هاجعات في المنامات التي ارتسمت عليها أجسادهن، وشربت من عرقِ السنين، بعد يومٍ طويل من الكدِ! نسوةٌ لا ينتظرنَ إلا صوت الديك في الصباح، كي يُشرقن من جديد، ويعلن الولادة تلو الولادة، فهن الروح التي تمنح الأرضَ لونها، وتسقي الأبناء الحياة، دون أن توجعهن المسافات الطويلة على الجبال الشاهقة، جالباتٍ الماء والكلأ والحطب، مُسرِحاتٍ للماشية! يشعلن الموقد، يغنين، يرمين عجين الخبز كوكبٍ يسبح في الفضاء، قبل أن يرتطم بالجدار، وكأنه على موعد مع عناقِ الطين، بعدها يشرقُ رغيفاً مغربياً طرياً، تجتمع حوله العائلة، فتأكلُ القليل وتحمدُ الجليل، تسأل الله مدده، وتذكرُ نعمه.

أمهاتٌ كنُ هناك، في الأطلس، بين المفازات العالية، هُنَ جاراتُ نخلِ السماء، وهن الجميلات عطاءً وطيبة وصفاء قلبٍ، لذا، سوف يبقين كوشمٍ في الروح، لا يغادرها إلا حين تغادر الجسد!

هُن من يسرجن المواقد ليلاً، كاسات “الأتاي”، قليل من الزاد، شيءٌ من الأحاديث التي تستذكر أخبار القرية وجديد الجيران وما جرى على الماشية، قبل السباتِ اليومي؛ سباتٌ هذه المرة كان طويلاً لم يقم منه أحدٌ، ولم نسمع في اليوم التالي صياح الديك، ولا شممنا رائحة زيت الزيتون وقطع الخبزِ تنغمس فيه!

كان الموتُ أسرعَ انغماساً، وكانت الفاجعة أكبرُ من أن يداريها نواحٌ أو يواسيها حديثٌ أو يؤنسها بقاء خليلٍ خرجَ من بين الركامِ محطمَ القلبِ مقصوصَ الجناحَ. كان الزلزال، وكانت نساء الأطلس. الأول سرقَ حيواتهن، وهُنَ غِبنَ جسداً وبقينَ أرواحاً تحرُسنَ مراكشَ ويَذُدنَ عنها هول الكارثة. هُنَ الحياة الباقية، فيما خسفُ البيداء هزةٌ عابرةٌ في يومٍ عابرٍ، لن تسرقَ من الأطلس شموخه وزغاريد نسوته.

* كاتب وإعلامي سعودي

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف