هل الرّهان على الوساطة القطريّة في لبنان واقعي؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
لا تدخل قطر في وساطة إلّا وتحقق نجاحات بارزة فيها، وتنال، في مقابل ذلك، ثناءً من الأعداء والخصوم الذين توسّطت في ما بينهم.
آخر نجاحات الدوحة تمثّل في إتمامها صفقة تبادل السجناء والأرصدة المالية بين الولايات المتحدة الأميركية، من جهة، والجمهورية الإسلامية في إيران، من جهة أخرى. قبل ذلك لمع اسم الدوحة في استضافة المفاوضات بين أميركا و"حركة طالبان" في عام 2020، وكانت لاعبًا حاسمًا في التوسط بين الأقرباء المتنازعين في لبنان (2008) والسودان (2010) واليمن (2011).
وأعلن أمير دولة قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، في كلمته الأخيرة أمام الدورة الثامنة والسبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة، أنّ "حل النزاعات بالطرق السلمية طويل وشاق، لكنه أقل كلفة من الحروب".
ويقول مستشار رئيس مجلس الوزراء والمتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية القطرية ماجد الأنصاري، إنّ "تجارب الوساطة الناجحة تعطي صورة عن صواب نهج الحلول السلمية وفاعليته في حل النزاعات، عوضًا عن إعلاء صوت السلاح. فما تثبته قطر يومًا بعد آخر أن دبلوماسية الوساطات ناجحة، وأنه يمكن للأطراف المتنازعة أن تجد حلولًا وسطًا إذا ما توافرت النيات الجادة وتوافر الوسيط النزيه والمحايد، والذي يسعى بمثابرة لإزالة العقبات وتقريب وجهات النظر للوصول إلى اتفاقات من شأنها أن تعزز من أمن المنطقة والعالم".
وراهنًا، يتطلّع كثيرون إلى دور قطري محتمل لإخراج لبنان من أزمته الوجوديّة الحادة، إذا بقيت المساعي الفرنسية في مأزق "العقم"، بسبب عدم قدرتها على توفير مخارج تلائم الأطراف اللبنانية المتصارعة، في العمق، على هويّة لبنان وموقعه الإقليمي والدولي.
وتطرق أمير قطر في كلمته الأممية إلى الشأن اللبناني، سواء بصفة بلاده عضوًا في"الخماسية الدولية" أو انطلاقًا من استعداده لإرسال "وسيط حلول"، فلفت إلى أنّ "الخطر أصبح محدقًا بمؤسسات الدولة في لبنان"، داعيًا إلى "ضرورة إيجاد حلّ مستدام للفراغ السياسي، وإيجاد الآليات لعدم تكراره، وتشكيل حكومة قادرة على تلبية تطلعات الشعب اللبناني والنهوض به من أزماته الاقتصادية والتنموية".
بناءً على كل ذلك، هل يمكن المراهنة على نجاح قطري في لبنان؟
الإجابة عن هذا السؤال معقدة جدًا، إذ إنّ الخلاف الحالي في لبنان هو جذري، فهناك قوى تتطلّع إلى "خلاص حقيقي" في مقابل قوى تنشد تكريسًا للمعادلات السياسية والجيوسياسية الراهنة.
وهذا الخلاف الجذري هو الذي يقف وراء فشل المساعي الفرنسية، إذ إنّ طرحه الأساسي يقوم على "إنقاذ موقت"، بحيث يُرجأ الإنقاذ الدائم لمصلحة إعادة الدولة، بالمعادلات الراهنة، إلى حيّز الوجود.
ولم يظهر وفق التجارب السابقة، أنّ قطر حين تبذل مساعي الوساطة تتطلع إلى "خلاص حقيقي"، بل هي بارعة في إخراج المتصارعين من "الأزمات الطارئة"، وهذا ما تؤكده الوساطات السودانية واليمنية واللبنانية السابقة، إذ إنّ النتائج التي انتهت إليها قطر كانت موقتة، لأنّه سرعان ما تهاوت الأوضاع وأصبحت أسوأ مما كانت عليه.
وفي الوساطات التي كانت فيها الولايات المتحدة طرفًا، فإنّ الدوحة لم تنجح إلّا لأنّ واشنطن أرادت التنازل وكلّفت هذه الإمارة الخليجية تسويق ذلك، فالتراجع الأميركي لمصلحة إيران حاليًا هو وليد قرار اتخذته إدارة جو بايدن، عن سابق تصوّر وتصميم، وهو، في الوقت عينه، لا يعني حلًا للإشكاليات الكثيرة بين طهران وواشنطن، بدليل العقوبات الأميركية التي فرضتها على شخصيات إيرانية بالتزامن مع "صفقة التبادل"، وكذلك الحال بالنسبة إلى الإدارة الأميركية و"حركة طالبان"، إذ كانت الإدارة الديموقراطية عازمة على الانسحاب من أفغانستان، مهما كانت الكلفة على "حلفائها".
وفي الحالات التي نجحت فيها الوساطة القطرية كان "الموقت" هو البارز، مع ما يعنيه ذلك من تكريس للأمر الواقع، ولو كان توجه القوى اللبنانية يقضي بالتوصل إلى نتيجة مماثلة لكانت الوساطة الفرنسية قد حققت نجاحًا باهرًا، منذ انطلقت، لأنّها قامت في الواقع على "مقايضة"، بحيث يأخذ "الثنائي الشيعي" رئاسة الجمهورية ويقدم في مقابلها ضمانات رئاسيّة تنفيذية ورئاسة حكومة مستقلّة وخبيرة.
وإذا كان الرهان على قطر حاليًا سببه أنّ علاقتها بإيران مختلفة عن علاقة فرنسا بها، فهذا يفيد بأنّ المتفائلين بالدور القطري يعكسون "الآية الفرنسية"، فباريس حتى تؤثّر في لبنان وجدت نفسها مضطرة للتنازل أمام "حزب إيران" في لبنان. في المقابل، يعتقد هؤلاء أنّ الدوحة يمكنها أن تمون على إيران حتى يتنازل حزبها في لبنان. وهنا بيت القصيد!
في اتفاق الدوحة عام 2008 تنازل "حزب إيران" لمصلحة إيصال قائد الجيش في حينه العماد ميشال سليمان إلى رئاسة الجمهورية، لينال في المقابل حق الفيتو في السلطة التنفيذية، الأمر الذي أتاح له، مع مرور السنوات، السيطرة على كامل القرار الاستراتيجي اللبناني.
فماذا يمكن أن تعطي قطر في مقابل تنازل "حزب إيران" عن الرئاسة أكثر مما سبق أن أخذ، في وقت يعمل المعارضون له على "تشليحه" مكتسبات "تفاهم الدوحة"؟
منذ اليوم الأول لفتح معركة الرئاسة، كان "حزب الله" واضحًا في رسم خطوط المعركة: لا نريد ميشال سليمان جديدًا!
في المقابل، فإنّ القوى المعارضة لـ"حزب الله" حددت بدورها مواصفات رئيس الجمهوريةالعتيد: لا نريد ميشال عون أو إميل لحود جديدًا!
وعليه، أي نوع من الرؤساء يمكن أن تتفتّق عنه الوساطة القطرية حتى تنجح؟ وإلى أي طينة ينتمي قائد الجيش الحالي العماد جوزف عون الذي يهاجمه "التيار الوطني الحر"؟ ومن تراه ذاك الساحر الذي سيتمكن من استعادة سيادة الدولة وإبقائها في آن عمقًا استراتيجيًّا للجمهورية الإسلامية في إيران؟
إنّ الرهان على الوساطة القطرية لا يمكن أن يصيب إلا إذا افترض البعض أنّ حلّ تعنت بعض أطراف المعركة ممكن بدبلوماسية الحقائب المالية، أو أنّ هناك طرفًا مؤثّرًا سوف يحقق انتصارًا ميدانيًّا على الطرف الآخر، تمامًا كما حصل في عام 2008.
إنّ المعطيات الحاليّة إذا كرّست إفشال المساعي الفرنسية فهي بالتأكيد سوف تحبط الوساطة القطرية، لأنّ "دود" لبنان لا يكمن في تقييم شخص الرئيس بل في تحديد هويّة الجمهوريّة!