هل ستلقح "لغة شكسبير" التّعليم العالي الجزائري بروح العصر؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
يكثر الحديث في هذه الأيام على مستوى الأوساط السياسية الجزائرية العليا حول التحوّل اللغوي الذي يروّج له رسمياً، وينظر إليه كخشبة نجاة هذه المنظومة من التخلف، ويقصد بهذا التحول اعتماد اللغة الإنكليزية لغة البحث الأكاديمي في الجامعات الجزائرية، علماً أن مؤسسات التعليم العالي الجزائري لا تزال تتحكم فيها الذهنية التقليدية، وجراء ذلك لم تلعب الدور الريادي المنشود في خلق البيئة العلمية والفكرية والمهنية في المجتمع الجزائري.
وفي هذا الخصوص، يجمع المراقبون المتخصصون في شؤون منظومة التعليم العالي الجزائري على أن دور هذه المنظومة قد انحصر في تأهيل الموظفين لشغل المناصب فقط، بدلاً من تكوين الكفاءات التي توضع بين أيديها عمليات ترشيد التنمية الوطنية العلمية والثقافية والمهنية والاقتصادية وتطويرها، والدليل هو أن الاقتصاد الجزائري وملحقاته تعتمد كلية على ريع النفط وليس على الإنتاج المتطور والكافي في مختلف المجالات، والذي كان من المفروض أن يكون ثمرة جهود الأجيال التي تتخرج في المعاهد العليا للتكوين المهني، والمدارس العليا، والجامعات ذات التخصصات المتنوعة.
لقد تم تبرير بدايات التخلي التدريجي عن اللغة الفرنسية كلغة ثانية في التعليم الجزائري عامةً، وعلى مستوى التعليم العالي خاصةً، بمبررين اثنين هما عالمية اللغة الإنكليزية وكفاءتها العلمية من جهة، وحق الجزائر في استعادة هويتها وممارسة سيادتها على التعليم الوطني والتحكم في برامجه من جهة أخرى.
في هذا السياق، أكد وزير الاتصال الجزائري محمد لعقاب، يوم السبت الماضي في الاجتماع المخصص لتقييم عمليات التوظيف في مختلف القطاعات الجزائرية، بمشاركة وزارة الداخلية والجماعات المحلية ووزارة التربية الوطنية ووزارة التعليم العالي ووزارة العمل والضمان الاجتماعي، أن "اللغة الإنكليزية لغة عالمية"، وبها "ستأخذ الجزائر مكانتها إقليمياً وعالمياً". ثم أضاف قائلاً إن "هذه اللغة العالمية مكسب للتعليم العالي الجزائري".
ولكن شروع وزارة التعليم العالي الجزائري في تفعيل التحول اللغوي الذي يعني اعتماد التدريس وإنجاز الأبحاث الأكاديمية ونشرها باللغة الإنكليزية وليس تكوين الأساتذة والباحثين وفق المعايير الدولية، سواء في المجالات العلمية أم في حقول العلوم الإنسانية والمهنيات التي يطلق عليها اسم الصنائع، أفرز ظاهرة غريبة عن البيئة الصحية التي يفترض أن تسود منظومة التعليم العالي الذي يعتبر أحد الأركان الأساسية في التنمية الوطنية. وتتمثل هذه الظاهرة، بحسب التحقيق الدقيق الذي أنجزنه الإعلامية الجزائرية إلهام بوثلجي في انتشار الترجمة الرديئة بواسطة "غوغل" وسرقات المقالات والأبحاث والأطروحات الأكاديمية من طرف الطلبة، وذلك جراء عدم التحكم باللغة الإنكليزية وبآليات البحث العلمي، فضلاً عن عدم وجود خبراء ورؤساء تحرير للمجلات العلمية يتقنون اللغة الإنكليزية حتى يتم التعامل مع البحوث وتحكيمها جيداً، ويساهم في تحفيز الباحثين على النشر بهذه اللغة، بخاصة أن الوزارة أولت أهمية كبيرة للنشر بها وجعلتها معياراً مهماً للتقييم في دورات التأهيل والترقية، ومنحتها درجات أعلى مقارنة بالنشر باللغتين العربية والفرنسية.
لقد أبرز الأساتذة المختصون الذين شملهم تحقيق الإعلامية بوثلجي أن البحوث المسروقة جزئياً أو بالكامل لا تكتشفها لجان التحكيم، لسبب بسيط وهو أن أعضاءها لا يعرفون اللغة الإنكليزية، الأمر الذي جعل الغش الأكاديمي واقعاً مرضياً مزمناً ومنتشراً في مفاصل منظومة التعليم العالي الجزائري.
وهنا ينبغي التوضيح أن أهل الاختصاص في أخلاقيات التعليم الجامعي الجزائري ما فتئوا يحذرون من أخطار تحوّل طلابنا وباحثينا في المؤسسات الجامعية الجزائرية إلى لصوص أبحاث ومصطلحات ورسائل جامعية، يستخرجونها من بطون وسائل التواصل الاجتماعي ومن مواقع مراكز البحث والجامعات الأجنبية. والحال، فإن هذه الظاهرة مستشرية راهناً ويندر أن تجد بحثاً أكاديمياً مبتكراً مئة في المئة ويستجيب لمعايير البحث العلمي المتعارف عليها دولياً.
وفي الواقع، هناك حالات كثيرة تؤكد تورط الطلاب في الغش، إذ حدث أن استولى طالب في جامعة جزائرية معروفة على بحوث طلاب أجانب آخرين، وتبين أن ربع أطروحته منتحل، وعندما اكتشف أمره تم تجاهل ذلك من أجل حماية سمعة المشرف على الطالب والجامعة معاً.
وفي الحقيقة، فإن التحول اللغوي الذي اعتمدته وزارة التعليم العالي تميز بالاستعجال، حيث كان يفترض التأني وإعداد استراتيجية محكمة وطويلة الأمد، تضمن أولاً تكوين إطارات ذات كفاءة في دول العالم الأنغلوفوني في اللغة الإنكليزية، وذلك عملاً بالقاعدة القائلة بأن تعليم أي أستاذ جامعي أو طالب دراسات جامعية في طور التدرج أو في الطور العالي أسرار لغة أجنبية ما لأغراض البحث العلمي الدقيق، وليس لغرض السياحة العابرة أو لمجرد المحادثة اليومية البسيطة، يتطلب بيئة لغوية إنكليزية، وسنوات طويلة من التدريب الشاق والتجريب الميداني تحت إشراف المختصين الأكفياء، وذلك لأن اكتساب لغة ذات صلة بالتخصصات العلمية الفكرية والتقنية والفكرية أمر معقد فعلاً ولا مكان فيه للارتجال.
والواضح إذاً هو أن التحول اللغوي الذي يحدث الآن في الجزائر لم يمر بالمراحل الطبيعية التي تتطلبها عادة عمليات تأسيس وتنفيذ أي مشروع ثقافي أو تربوي أو لغوي قابل للحياة.
لقد كان من المفروض فتح نقاش جدي يشارك فيه الفاعلون التربويون والنخب المعنية بمنظومة التعليم العالي وحتى الثانوي بكل أشكاله، وذلك تحت إشراف وزارة التعليم العالي ووزارة التربية الوطنية ومؤسسات البحث العلمي والخبراء المتخصصين الذين مارسوا التعليم والإشراف على بيداغوجياته قبل الانتقال إلى مرحلة سنّ القوانين وتطبيقها، ولكن هذا النقاش المنشود والضروري جداً لم يحدث، بل فقد استبدل به اتخاذ قرار اعتماد اللغة الإنكليزية من طرف السلطات العليا فقط، وبعد ذلك طلب من مؤسسات التعليم العالي والمشرفين عليها عبر الوطن تطبيق التعليمات حرفياً.