هل جن الإعلام الغربي؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
لا شك أن للإعلام الغربي وسردياته، خصوصا أمهات الصحف والقنوات العالمية الغربية، بعض الوقع ليس ضمن مساحة متلقيه في أوطانه بل في كثير من أنحاء العالم. ويشذ عن هذه القاعدة الشرق الأوسط والقنوات الإعلامية الرئيسة فيه. ولكن الشذوذ عن القاعدة هنا لا يعني العمل عكس ما يتمناه الإعلام الغربي، بل تثبيت وتعزيز منطلقاته والذهاب إلى أبعد ما يمكن للتحقق منها.
صارت القنوات الإعلامية الغربية مصدرا للأخبار والمعلومات للمتلقين العرب، ولكن من النادر أن يصبح مقال رأي في أكثر الجرائد العربية انتشارا وتأثيرا مادة رئيسة على واجهة القنوات الإعلامية الغربية.
مقالنا لهذا لأسبوع لا يتناول الإعلام العربي. تحدثنا عنه في مقالات عديدة، وقد نشرت كتابا بالعربية عن قضاياه ومشكلاته ومعوقاته. بيد أن الإعلام العربي عكس الإعلام الغربي، لا يدعي الموضوعية والنزاهة والاستقلالية والتوازن وغيرها من المبادئ "السامية" التي يتشدق بها الإعلام الغربي.
تفتقر بعض قنوات الإعلام العربي المشهورة أحيانا إلى دليل أسلوب، بمعنى آخر، ليس هناك من خطوات وتعليمات صريحة مكتوبة للصحافيين العرب لتتبعها لتحقيق النزاهة عند قيامهم بتغطية حدث ما.
الإعلام الغربي، خصوصا قنواته الرئيسة، لها أدلة أسلوب، أحيانا تحدد الجملة أو الفقرة أو المرادفة التي على الصحافي اللجوء إليها لتوصيف الشخوص والأحداث بنزاهة وموضوعية دون محاباة.
بعض أدلة الأسلوب، مثل الذي يعود إلى وكالة "أسوشيتد برس" مثلا، يعد كتابا منهجيا في أغلب معاهد وكليات التواصل والإعلام والصحافة في أمريكا وأوروبا.
الإعلام الغربي يقول صراحة إنه ينقل الأحداث كما هي وليس كما يبتغيها الصحافي أو الصحيفة أو ممولوها، ويضع هذه الأحداث والشخوص ضمن سياقها، ويرفض أي ضغط سياسي أو مادي أو غيره لتغير البوصلة التي لا اتجاه لها غير الموضوعية والنزاهة. لكن من ينظر نظرة فاحصة على الطريقة التي ينقل بها الإعلام الغربي الدمار والقتل والمذابح التي تقترفها إسرائيل في غزة، سيخرج بمحصلة إما قد تؤدي بها إلى الجنون وإما يعتقد أن الإعلام الغربي قد أصابه مس من الجنون.
أن يقابلك إعلامي غربي في قناة غربية شهرية وأول ما يواجهك به هو سؤال مغلق: "هل تدين الأعمال الوحشية التي اقترفها طرف محدد في الصراع؟" ويصر: أجب بنعم أم لا؟ وإن قلت إنك تدين أشد الإدانة كل انتهاك لحقوق الإنسان وقتل المدنيين الأبرياء والأطفال والشيوخ والنساء بدم بارد إن كان هذا الطرف أو ذاك، قاطعك بشدة أو ربما أغلق الهاتف في وجهك وطردك.
عليك أن تسرد ما يريده الإعلام الغربي أن تقوله، وتتماشى وتتماهي مع سرديته رغم النفاق الذي يكتنفها وازدواجية المعايير التي فيها. لقد جن جنون الإعلام الغربي لولوجه حتى أذنيه في ازدواجية المعايير. انظر كيف يمنح الأوكرانيين حق الدفاع عن بلدهم ضد الاحتلال ويمدهم بكل عون ومدد ومساعدة.
يفعل ذلك ليس في أوكرانيا، ولكن حتى عندما يتظاهر بعض الناس في الدول التي هي على خلاف أيديولوجي معه ـ في إمكانك تسمية دول عديدة.
الأوكرانيون لأنهم يحاربون الاحتلال الروسي فإنهم محاربون من أجل الحرية، وقس على ذلك أي مقاومة لأي دول أو شعب الغرب في خلاف معه. لكن انظر جنون السردية عندما يتعلق الأمر بالفلسطينيين الذين مضى أكثر من نصف قرن على تجرعهم أبشع احتلال في القرنين الـ20 والـ21، حتى إن رفعوا حجرا في وجه المحتل فإنهم إرهابيون.
هذا يسري على العرب والمسلمين قاطبة إن قاوموا الغزو أو الاحتلال الغربي لأوطانهم وأراضيهم. أما فيما يتعلق الأمر بما يتعرض له الفلسطينيون من اضطهاد يرقى إلى حرب إبادة حاليا في غزة، فالويل لك حتى إن تفوهت بعبارة بسيطة مثلا إن قلت أظن أن ما يقوم به الفلسطينيون مهما كان لم يأت من فراغ لأن له أسبابه وعلينا معالجة الأسباب لكي لا نقع في وضع مأساوي مثل الذي نشاهده مرة أخرى.
هناك قائمة طويلة لأساتذة جامعيين ومفكريين وسياسيين وكتاب وصحافيين في الغرب يجري اضطهادهم وبعضهم جرى فصله لأنه فقط ذكر أنه علينا أن نقرأ سياق ما يقوم به الفلسطيني من أعمال، وأن الإدانة يجب أن تكون لأي قتل للأبرياء تحت أي ذريعة.
هكذا يسري الأمر ليس على الصراع الفلسطيني الإسرائيلي ولكن على أي صراع للغرب مع أي دولة أو فكر أو أيديولوجية مخالفة لتوجهاته ومصالحه. كل من يقاوم الغرب وغزواته واحتلالاته يقع في خانة الإرهاب، ولا حاجة لنا إلى الاستشهاد بالأمثلة.
هنا أنا لم أتحدث عن تحليل السردية ذات القيم المزدوجة هذه عندما يتعلق الأمر بتحليل اللغة والخطاب المستخدم. اللغة والخطاب تشكلان الواقع الاجتماعي والجنون الذي يرافق تغطية الإعلام الغربي للفظائع التي تقترف في غزة حاليا، أي قراءة بسيطة لمقال عابر ستبرهن أن الفلسطيني كإنسان ليست له القيمة ذاتها مثل الإسرائيلي كإنسان.
لم يخطر ببالي أن يتهاوى الإعلام الغربي إلى هذا الحضيض وأن يجن جنونه بهذا القدر إلى درجة حتى وأنا أكتب بالعربية، فإنه علي الحذر لأن مس الجنون الذي يغطي كثيرا من مناحي الحياة في الغرب صار وبالا بتنا نخشاه كلنا، هذا وأنا مواطن السويد، الدولة الأكثر تشدقا بالحرية والديمقراطية والمساواة وحقوق الإنسان.