جريدة الجرائد

غزة وأزمة الهوية العربية الإسلامية

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك


alriyadh.com
غزة وأزمة الهوية العربية الإسلامية
7&-10 minutes

ما تتعرض له غزة من إبادة تحت نظر وسمع العالم، لم يشكل فقط مشكلة أخلاقية عميقة بل إنه يضع الهوية العربية والإسلامية على المحك ويعيد ترتيب المسؤوليات التي يفترض أن تقوم بها الدول المؤثرة في المنطقة. إن الأحداث الجارية تكشف إشكالات مباشرة مرتبطة بمن نحن وما هو دورنا في هذا العالم، وهل نحن نشكّل "هوية واحدة" أم أننا ننتمي لهويات متفرقة ولا يجمعنا شيء حقيقي، وإن كانت اللغة والدين حاضرين في كل حوار حول الهوية العربية والإسلامية. في الواقع إننا نحتاج إلى الحد الأدنى الذي يوحد مواقفنا ويجعلنا نواجه المخاطر ككيان واحد، ولعل هذا ما قامت به السعودية، كدولة مؤثرة وتعي دورها جيداً، إذ لم تكتفِ بلمّ الشمل وتوحيد الصفوف، بل عملت في جميع الاتجاهات لخلق قوة ضغط على الكيان الصهيوني والدول التي تقف وراءه. لقد جمعت خلال أيام قادة العرب والمسلمين في الرياض لتبني موقفاً مؤثراً تجاه ما يحدث في غزة. مع ذلك نحتاج إلى التفكير ملياً في شبكة المصالح التي تجمع الدول العربية والإسلامية وتقويتها لأنها هي المخرج الوحيد من واقعنا المؤلم.

استمعت لبعض كلمات وزراء الدول أعضاء منظمة اليونسكو أثناء انعقاد المؤتمر العام في مقر المنظمة في باريس هذا الشهر، لاحظت أننا بحاجة إلى مراجعة شاملة لوجودنا كعرب ومسلمين في المنظمات الدولية، فالتأثير يحدث عندما يكون هناك كتلة موحدة ومتوافقة على أهداف واضحة، مع العلم أنه كان هناك لقاء تنسيقي لمنظمة التربية والثقافة والعلوم للدول الإسلامية (الإيسيسكو) على هامش المؤتمر العام. الانطباع الذي خرجت به من هذه اللقاءات أن هناك أزمة "هوية"، إذ لا نكاد نتبين من نحن فعلاً وماذا نريد أن نكون عليه في المستقبل وما الذي يربطنا ببعض. فهل نحن نؤمن بأن "مصيرنا مشترك" أو أن كل بلد صار يبحث عن مصيره المنفرد؟

شخصياً لا أصف نفسي بالدبلوماسية، وربما يغلب عليّ الانفعال عندما أسمع آراء تحوّل الباطل إلى حق، أو تقلب الحق إلى باطل، هذا ما شعرت به أثناء كلمات وزراء الدول الغربية بشكل عام. في الواقع هم لا يعبؤون بنا ولا يرون أننا نستحق الوجود، وهذا أمر مفروغ منه. لكنهم متفقون بشكل صارم على دعم الكيان الصهيوني، وهم يعرفون أنه ليس على حق، في الواقع هم لا يرون أمامهم كتلة سياسية واقتصادية وعسكرية مؤثرة يمكن أن تعاقبهم. ما يؤثر في قراراتهم هي "القوة" و"المصالح"، وفي اعتقادي أن مفهوم "هوية الأمة" لم يعد مفهوماً ثقافياً أو دينياً فقط، بل أصبح يعتمد على ثلاثة أركان رئيسة هي "الثقافة" و"الاقتصاد" و"القوة العسكرية"، وما لم تتوفر هذه الأركان الثلاثة فلا يوجد كيان يمكن القول إن له هوية محددة.

جميعنا يعرف المثل الذي يقول "من أمِن العقاب أساء الأدب"، والعدو الصهيوني ومن خلفه الغرب يسيء الأدب لأنه يعرف أنه لا حول لنا ولا قوة. لم يستطيعوا أن يفعلوا شيئاً عندما غزت روسيا أوكرانيا وصاروا يتباكون على الأخلاق ويتنادون بتطبيق القانون الدولي، وهو قانون مفصّل على مقاسهم، وفي نهاية الأمر وقفوا عاجزين، لأنهم يواجهون نداً لهم. إنهم جبناء، لا يظهرون قوتهم إلا على الضعفاء، فإما أن نعيد حساباتنا ونعمل على بناء قوتنا الذاتية وإلا سنظل هكذا نُظلم ونُهان دون أن نستطيع أن نفعل شيئاً. ولأنه "من يهن يسهل الهوان عليه"، لذلك يجب أن تعلمنا الأحداث الحالية أن الغرب العنصري لا يؤمن بالأخلاق والنوايا الحسنة، ولا يفهم في التسامح وقبول الآخر، كلها شعارات تسقط بشكل مروّع عند الأحداث الكبيرة، كما سقط مدّعي الأخلاق والفلسفة الألماني "هبرماس" عندما أيد الكيان الصهيوني المجرم بوقاحة. العقلية القائمة على مركزية الأعراق الأوروبية لا تزال راسخة في عقول هؤلاء، فهم يرون أنهم من يستحق البقاء فقط.

تكمن إشكالية الهوية في تحديد "من نحن" وكذلك تحديد موقفنا من "الآخر"، ويبدو أننا لم نحسم هذين الموقفين خلال القرنين الأخيرين، ففي حين أننا كدول قُطرية ناشئة بحاجة إلى وجود كيان إقليمي متماسك وقوي وقائم على مبادئ واضحة تكفل حقوق ووجود وتأثير جميع المنتمين إلى هذا الكيان، نجد أننا كل يوم نبتعد عن هذا الكيان، وأنا لا أتحدث هنا عن "جامعة الدول العربية" أو "منظمة التعاون الإسلامي"، فهذان الكيانان لم يتطورا كي يحققا أركان الهوية (الثقافة والاقتصاد والقوة العسكرية)، بل نحتاج إلى كيان جديد واضح قائم على المصالح المشتركة بشفافية. هذا ما تسعى له المملكة وولي عهدها الشاب، فالعمل على تأليف القلوب وبناء الكيانات الاقتصادية القوية جزء من رؤية المملكة، وهذا ما أكد عليه سمو ولي العهد في أكثر من مناسبة "بناء شرق أوسط قوي ومزدهر". ما يجب أن نتعلمه من أحداث غزة هو أن الهوية ليست فكرة تجريدية بل يجب أن تصبح "هوية عملية" يمكن تحويلها إلى برنامج عمل ثقافي واقتصادي وعسكري وسياسي.

وأنا في استماعي إلى كلمات الوزراء في المؤتمر العام في اليونسكو تذكرت مطلع قصيدة أبي تمام:

السيف أصدق أنباء من الكتب..... في حده الحد بين الجد واللعب

بيض الصفائح لا سود الصحائف في.... متونهن جلاء الشك والريب

وحسب ما أرى فإنه لا يوجد هوية بلا قوة، وأذكر في هذا الصدد أنني كتبت مقالاً منذ فترة طويلة في هذه الصحيفة حول "الأخلاق والسلطة"، فلا يوجد أخلاق دون وجود قوة تحميها، كذلك لا يوجد هوية دون وجود قوة تؤكد وجودها وتحميها. ومأزق الهوية العربية والإسلامية المعاصرة ناتج عن ضعفنا وليس لعدم وجود مخزون ثقافي يمكن أن نقدمه للعالم.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف