الأمني والسياسي في أزمة المياه في العراق
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
قدرة الإنسان على التكيف هي ما أبقته على قيد الوجود. فماذا يعني، بالنسبة إلى شحة المياه في العراق أن تتفاقم عواقب التغير المناخي “بشكل أسرع من قدرة الناس على التكيّف”.
ماذا يعني أن تنزح 68 ألف أسرة في مناطق الأهوار، خلال الصيف الماضي وحده، بسبب فقدانها سبل العيش نتيجة لـ“تراجع المساحات الزراعية وازدياد معدلات التصحر والعواصف الغبارية والرملية”، (كما يقول المجلس النرويجي للاجئين)؟ إلى أين ذهب هؤلاء؟ ومَنْ تكفل بتقديم بدائل عيش أخرى لهم؟ وإلى أين سيذهب غيرهم ممن سيدفعون الثمن عاما بعد آخر، إذا لم تجد الحكومة ما تفعله؟ وإذ تتفجر المشكلة مع مرور كل يوم، فماذا يعني التعامل معها وكأنها لم تحدث؟ ماذا يجب أن يحدث أصلا، لكي يصحو قادة الميليشيات الحاكمة، على حقيقة أنهم يهددون بقاءهم نفسه، إذا هددوا اختلال التوازنات السكانية بعد الاقتصادية؟
الأرقام التي تقدمها الأمم المتحدة عن تأثيرات التغير المناخي في العراق، وبخاصة منها نقص المياه، أقل ما يقال فيها إنها مفزعة. والمسألة لا تقتصر على تراجع مساحة الأراضي الصالحة للزراعة إلى أقل من الثلث. ولا حتى تراجع حصة العراق من مياه نهري دجلة والفرات. ولكنها تشمل فشلا إداريا هو مصدر الضرر الأشد، وآخر سياسيا يجعل العراق يعجز عن الدفاع عن نفسه حيال انتهاكات إيران وتركيا لحقوقه من المياه.
الاعتقاد السائد يقول إن التصحر المتزايد وتراجع مساحة الأراضي الزراعية “يهدد الأمن الغذائي”. وهو اعتقاد سطحي، لاسيما إذا أخذت بعين الاعتبار أن المنطق الذي ظل سائدا لدى حكومات الميليشيات المتعاقبة هو أن الاستيراد يمكن أن يسد النقص.
التهديد الحقيقي هو انهيار الأمن الاجتماعي نفسه. انهيار التوازنات التي تحفظ له الاستقرار. المسألة في الزراعة لا تتوقف على ما تنتجه من غذاء. إنها جزء من نظام اقتصادي، وآخر اجتماعي. وحالما تتعرض الزراعة إلى الخلل، فإن النظامين التاليين يتصدعان. وقل للأحمق، من بعد التصدع، “إن النظام السياسي سوف يبقى مستقرا”.
لن تعثر على أحمق واحد يمكنه أن يصدقك.
الأمر ها هنا يتعلق بتهديد أبعد حتى من نظام سياسي بليد، يستحق أن يسقط، هو وكل الذين يقفون خلفه من قادة الميليشيات والأحزاب الطائفية. الأمر يتعلق بمعادلات البقاء نفسها.
قد يمكن أن تحكم العراق ميليشيات تنهب موارد البلاد. وقد تخضع البلاد لاستعمار شره وهمجي مثل الاستعمار الإيراني. وقد يخضع هذا البلد لهيمنة قوى ومصالح أجنبية متضاربة، تريد أن تأخذ أكثر ما يمكن في أسرع وقت. وقد يجتمع هذا كله دفعة واحدة، إلا أن ذلك لا يبلغ حد تهديد مقومات البقاء، حتى يكون الأمر مشروعا لدمار شامل. شيء يشبه إلقاء قنبلة نووية تطحن الملايين من البشر، أو تدفعهم إلى الرحيل.
45 مليون عراقي، قد يجدون ماء يشربونه الآن، ولو كان أقل نقاء مما يجب. ولكن عندما يهجر الفلاحون أراضيهم، وعندما تعجز الأرض عن أن توفر مصدرا للعيش أو أن تكون سببا للاستقرار الديمغرافي، فكأنك تحطم مقومات حياة لا يمكن “استيرادها” من الخارج، كما تستورد علب الفاصوليا.
في العام الماضي، أدى الجفاف والتصحر إلى تقليص الأراضي الزراعية إلى النصف قياسا بالعام الذي سبقه. ماذا حلّ بالذين كانوا يعيشون على ذلك النصف؟ إلى أين ذهبوا؟ هل قدموا طلبات انتساب لواحدة من الميليشيات الحاكمة لكي يعيشوا أم أنهم أوجدوا لأنفسهم “طريقة” أخرى تماثل طرق عيش الميليشيات؟
المجلس النرويجي للاجئين يقول في أحدث استطلاع له “اضطر أربعة من كل خمسة أشخاص، من بين أولئك الذين شملهم الاستطلاع في المجتمعات الزراعية في نينوى وكركوك، إلى خفض إنفاقهم على الغذاء خلال الأشهر الاثني عشر الماضية”.
الحل، بعبارة أخرى، أنهم: صاروا يأكلون أقل. هذا بالنسبة إلى اليوم. ماذا عن يوم الغد؟ ماذا سيفعل الجياع، إذا لم يجدوا ميليشيات تنهب لتؤويهم؟
مكتب الأمم المتحدة في بغداد وضع العراق بين الدول الخمس الأولى الأكثر تضررا من التغييرات المناخية، وفي المرتبة 39 بين الدول الأكثر إجهادا للمياه. والإحصائيات الرسمية تقول إن نسبة التصحر بشكل عام وصلت إلى 69.7 في المئة من إجمالي مساحة البلاد.
لا تستطيع حكومة محمد شياع السوداني أن تزعم أنها لا تمتلك الموارد الكافية من عائدات النفط لمعالجة هذه الأزمة. وهي نفسها قالت إن لديها خططا لمشاريع “أحزمة خضراء” حول المدن لمواجهة مشكلة عواصف الغبار، وأعلنت أن وزارة الموارد المائية تعتزم تشييد 36 سدا صغيرا لحصاد مياه الأمطار. وهناك دراسات يجري إعدادها حول مواقع هذه السدود. وأعلنت “أمانة بغداد” استئناف العمل بتنفيذ مشروع الحزام الأخضر للعاصمة، الذي تعطل عشرين سنة، لزراعة 120 ألف شجرة على مساحة 940 فدانا غرب العاصمة. وأعلن البنك المركزي العراقي العام الماضي عن إطلاق مبادرات تنموية لمواجهة التصحر والتغير المناخي بالتعاون مع وزارات وهيئات حكومية عديدة ومنظمات مدنية أيضا.
ولكن الحقيقة هي أن هذا كله كذب. إذ لم تتوفر الدراسات، كما لم تتوفر الموارد المادية التي تسمح بالتنفيذ. والوعود ظلت وعودا، لأن حكومة السوداني تتعامل مع الأزمة، وهي كالجمر بين الكفين، بمنطق المعالجات “المستقبلية”، وكأنها لم تستفحل بعد.
عشرات المليارات من الدولارات يجري تخصيصها لتمويل الميليشيات في العراق، على اعتبار أنها جزء لا يتجزأ من ضمانات الاستقرار الأمني، ولحماية نظامها السياسي.
النهوض بمشاريع لترشيد استهلاك المياه في الزراعة، وبناء أنظمة ري حديثة، وحصد مياه الأمطار، وتنفيذ حملة وطنية للتشجير، مع توفير الموارد اللازمة لاستدامتها، وتقديم الخدمات والتسهيلات لتنمية المشاريع الزراعية، وخاصة منها التي تقوم على استهلاك كميات أقل من المياه، لا تكلف بمجملها ما تكلفه تلك الميليشيات. وهي توفر ضمانات للاستقرار الأمني والاجتماعي والسياسي أكثر بكثير مما توفره تلك الميليشيات. لأنها تحفظ، ببساطة، توازنات لا يمكن استيرادها من الخارج كما تُستورد علب الفاصوليا.
صحيح، أن مصارف الميليشيات وتجارها، يهمهم استيراد تلك العلب، وصحيح أنهم يقدمون بيانات مزيفة للمصرف المركزي من أجل الحصول على تحويلات بالدولار تذهب إلى الحرس الثوري، إلا أن ذلك لا يُغني عن حاجتها، هي نفسها، إلى وقف تداعيات القنبلة النووية التي تم إلقاؤها على العراق، منذ أن توفرت لها الفرصة لسحق العراق.
الكذب نفسه غير ضروري. لأن حباله قصيرة، على أي حال.