نتنياهو والأسد بمكيال الغرب ومكيالنا
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
لمناسبة حرب إسرائيل، المستمرة بوحشية على غزة، عاد بقوة انتقاد الغرب الذي هرعت حكوماته لمساندة الحكومة الإسرائيلية بلا أي قيد أو شرط، خاصة في الأيام الأولى للهجوم الإسرائيلي. ومع انتقاد الغرب عادت كليشيهات قديمة للتداول، منها أن "الغرب يكيل بمكيالين"، وبالمعنى ذاته يُستخدم تعبير "ازدواجية المعايير"، ليكون الغرب في الحالتين خبيثاً ماكراً تجاه العرب تحديداً. ثم، بما يعنيه استقراره في الأذهان لعقود، يرسّخ هذا الاستخدام فكرة ثبات الغرب في علاقته مع العرب.
في بقعة جغرافية غير بعيدة عن غزة أو تل أبيب، يحق للأسد أن يفرح بزملاء وأساتذة قدامى يرتكبون من المجازر ما يُنسي العالم أن عدد ما قتله من السوريين يقارب نصف سكان غزة. هو قبل يومين فقط أصدر بياناً يتهجم فيه على منظمة حظر الأسلحة الكيميائية التي أصدرت في نهاية الشهر الفائت قراراً يمنع تصدير بعض مكونات السلاح الكيماوي إليه، والإشارة هنا للتذكير بأن الأسد كان قد حظي بترخيص من أوباما "رئيس القوة الغربية الأعظم" باستخدام كافة الأسلحة ما عدا الكيماوي، ثم حظي بعد استخدامه باتفاقية تعفيه من المساءلة، ورغم ذلك لم يتقيّد بها أطلاقاً.
بالمقارنة بين نتنياهو والأسد، يمكن على الأقل لهواة هجاء الغرب الانتباه إلى كونه لا يكيل بمكيالين، ويتغاضى عن المجرم في الحالتين، وتقديم الدعم الأمريكي لإسرائيل مؤخراً له ما يوازيه أو يزيد بالدعم الروسي والإيراني للأسد، وبرضا ضمني من واشنطن. لكن كثر يتحاشون المقارنة، لأنهم يتمنون رؤية النخب الغربية الحاكمة تكيل على أهوائهم، ومنها صمتهم على مجازر الأسد.
لقد هجا سوريون أيضاً الغربَ لأنه لم يستخدم قدرته على إنقاذهم، خاصة لأنهم "كما حال مجمل شعوب الربيع العربي آنذاك" كانوا يتطلعون إلى سند غربي بحكم مثُل الحرية والديموقراطية التي يطالبون بها. لكن أملهم بالغرب خاب، وقد يكون ضرورياً فهم التدني الراهن لحساسية النخب الغربية الحاكمة إزاء العنف وقضايا الحريات والديموقراطية في العالم عموماً، بما أن الفهم أو سوء الفهم السابقين غير صالحين اليوم، إذا كان الأول منهما صالحاً قبل عشرات السنين.
لقد صادف إنشاء إسرائيل مع انتهاء الحرب العالمية الثانية وبدء الحرب الباردة، ومن المعلوم أن مؤسسيها ونخبتها كانوا بمعظمهم من اليهود الغربيين، وكان يُنظر إليها بمجملها كدولة غربية ديموقراطية في الشرق. أيامها كان الغرب يبدو كأنه يكيل بمكيالين، إذ تتوقف مطالباته بالحرية والديموقراطية عند العدوان الإسرائيلي على حقوق شعب بأكمله، وكانت إسرائيل الاستثناء الفاقع من تطبيق القرارات الدولية، مع التذكير بأن الأمم المتحدة قلّما اتخذت في تاريخها كله قرارات مُلزِمة، وحتى الفصل السابع يجيز استخدام القوة أما التنفيذ فقرار سيادي للقوى القادرة عليه.
لقد كان "نشر الديموقراطية" بمثابة أيديولوجية غربية في الحرب الباردة، وعطفاً على ذلك ظهرت قيم الحريات كأنها قيَم غربية، وكأنما الغرب يعتنقها كقيم تبشيرية. في الواقع كان "التبشير الديموقراطي" داخلياً على جبهتين؛ في أوروبا الغربية نفسها حيث لم تكن الحريات ولا الديموقراطيات متقدمة جداً قبل الثورة الطلابية التي انطلقت من فرنسا وأثّرت في أوروبا الغربية كلها نهاية الستينات، والجبهة الثانية هي أوروبا الشرقية التي كانت المستهدف الأساسي بالتبشير الديموقراطي.
لم تكن البلدان العربية مستهدفة بنشر الديموقراطية، وبلدان العالم بمعظمها لم تكن مستهدفة بذلك، هذا ما سيتضح مع سقوط جدار برلين عام 1989 وانهيار المعسكر السوفيتي والديكتاتوريات الحاكمة في أوروبا الشرقية. ربما كان الغرب "بسبب الانقسام العالمي والتنافس أثناء الحرب الباردة" أكثر استعداداً لدعم تطلعات ديموقراطية بعيداً عن أوروبا، وهو ما تراجع عنه بعد انتهائها. الغرب نفسه شهد تيارين، يمثّل تفاؤل الأول منهما فرانسيس فوكوياما الذي كتب قبيل سقوط جدار برلين مبشّراً بنهاية ليبرالية سعيدة للتاريخ، في حين سينشر صامويل هنتنغتون كتابه "صدام الحضارات" في مستهل النصف الثاني من التسعينات، ليُنذر بأن الاختلافات الثقافية ستكون في العقود اللاحقة المحرِّك الرئيسي للنزاعات بين البشر، وهذا ما نشهد جانباً منه على الأقل من قبل أنصار الصراع الحضاري بين المشرق العربي والغرب.
واحد من أوجه سوء الفهم الأصيل أو المتعمَّد عدم إدراك أن التبشير الديموقراطي كان يستهدف أوروبا الشرقية وقد حقق هدفه، وأن هذا التبشير فقط هو شأن سياسي غربي سابق، بينما سؤال الديموقراطية مُلْك للبشرية التي توالت على تطوير أفكار وأنظمة وأساليب حكم وقوانين وقواعد حروب.. إلخ. من الضروري تالياً الانتباه إلى أن التراجع الغربي عن التبشير الديموقراطي انعكس على الديموقراطية في دول الغرب نفسه، فصعدت تيارات اليمين المتطرف والشعبوي التي لا تكنّ تقديراً لجوهر الديموقراطية، وتريد تطبيق صراع الحضارات حتى بين مواطني بلدانها بالتمييز ضد ذوي الأصول المهاجرة.
في بلد مثل فرنسا، على سبيل المثال ليس إلا، فاز ماكرون بولايتين رئاسيتين على مرشّحة اليمين المتطرف، ونسبة كبيرة ممن اقترعوا له فعلوا ذلك بوصفه أهون الشرين. ماكرون يجيد اللعبة السياسية أكثر مما يكترث بجوهر الديموقراطية، وقد ظهر ذلك في مناسبات داخلية، أهمها تصلّبه في إقرار قانون جديد للتقاعد، رغم المظاهرات والإضرابات الواسعتين رفضاً له، ورغم أنه كان يستطيع الدخول في تسوية مرضية مع النقابات. لكن الخبر الجيد فرنسياً أن موقف ماكرون المندفع في تأييد نتنياهو قابله، بعد استيعاب صدمة هجوم حماس، تيار داعم لغزة وللفلسطينيين هو المستمر والأوسع، بينما لم تستقطب المظاهرة الوحيدة الداعمة لإسرائيل إلا عدداً محدوداً، وخلال الأسابيع المنقضية نفسها أصدر القضاء الفرنسي مذكرة توقيف بحق بشار الأسد.
على صعيد متصل، شهدنا مظاهرات غير مسبوقة دعماً للفلسطينيين في مدن أمريكية وأخرى في مدن إنكليزية، بخلاف السياسات الرسمية للبلدين، ومن المستغرب أن معظم الذين يهاجمون الغرب و"ازدواجية معاييره" يعتبرون تلك المظاهرات انتصاراً عليه في عقر داره. لعل واحداً من استحقاقات الأمس واليوم هو النظر في الغرب إلى مناصري غزة اليوم ومناصري الحريات والديموقراطية عموماً بوصفهم شركاء، أي من موقع الشراكة القيَمية. أكثر ما يسيء إلى هؤلاء الشركاء، وأفضل ما يُقدَّم اليوم لأسوأ القوى الغربية هو هجاء الغرب برمته من منطلق الصراع الحضاري، ثم تسوّل تدخّله للتقليل من وحشية نتنياهو حفاظاً على سمعة الغرب المذموم!