الأمن الغذائي في تونس: حلول مؤقتة لا تلغي البدائل
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
الحكومة التونسية تتحرك لحل الأزمات الخاصة بنقص المواد التموينية من خلال مراقبة الصفوف أمام المخابز وأخبار فقدان مواد مثل السكر والأرز والحليب، كأنما تريد إسكات الناس وترضيتهم مؤقتا بدلا من التفكير في حلول دائمة.
لا يمكن أن تكون مهمة الحكومة التونسية هي مطاردة الأزمات. كل يوم زيارة ميدانية وتحرك ظرفي واجتماع عاجل لسد الفراغ، لأن هذا سيعني أنها ستجد نفسها تدور في حلقة مفرغة.
صحيح أن تحرك حكومة أحمد الحشاني مهم مع نقص المواد التموينية حتى يرى الناس أنها تقوم بدورها ولم تتخل عنهم، لكن الأهم أن تكف عن التعامل بمنطق الطوارئ، بالبحث عن مسالك لاستيراد البطاطا أو السكر أو القمح وغيرها وقت الطوارئ، أي أن تتحرك حين تشعر بالحرج وحين يتحدث الإعلام أو مواقع التواصل الاجتماعي عن الصفوف أمام المخابز، أو حين التندر بقصص البحث عن السكر والحليب والزيت والأرز.
من المهم أن تضع خططا وبرامج، وأن تفكر في البدائل على المديين المتوسط والبعيد، بشأن حل هذه الأزمات. الوعي بالبدائل جزء من مسؤوليات الحكومة وليس مسؤوليات غيرها بما في ذلك رئيس الجمهورية الذي تقف مهمته عند التنبيه والمراقبة والتوجيه.
لنأخذ مثلا قضية السكر. الوقت الحالي يتم الاستيراد بشكل شبه كامل سواء في شكل سكر جاهز للاستهلاك أو كميات خام في شكل سكر أسمر يقع تكريره ليكون أبيض ثم يتم تكييسه في وحدات صناعية.
وأزمة استيراد هذه المادة الحيوية مرتبطة بأزمة العملة الصعبة بالدرجة الأولى، حيث أن تونس لم تعد قادرة على المنافسة لتحصيل الكميات التي تريدها بشكل مسبق، وهناك دول أكثر قدرة على الإيفاء بالتزاماتها للموردين ستأخذ الأولوية وتحوز على كميات أكبر.
ولا شك أن هذا الوضع سيستمر إلى ما لا نهاية على هذا الإيقاع إلى حين التوصل إلى حل بشأن تأمين التمويلات الخارجية التي ترفع من مستوى الثقة في تونس لدى الموردين، وهو أمر يظهر بشكل أكثر وضوحا في توريد القمح.
والحل في قضية السكر يأخذ اتجاهين، الأول الاستمرار في التوريد بحسب الإمكانيات. أما الاتجاه الثاني وهو الأهم فيخص إعادة تشغيل مصنع السكر بمدينة باجة (شمال غرب) الذي كان يوفر لعقود جزءا من حاجة البلاد من هذه المادة.
ووقف الرئيس قيس سعيد على واقع هذا المصنع في زيارته الأخيرة إلى المدينة، واكتشافه حالة من الفوضى، ووعد بالعمل على أن تعود الشركة أحسن مما كانت وأنها مكسب وطني لن يتم التفويت فيه.
وتظهر هذه الزيارة أهمية المبادرة لإنقاذ المؤسسة بشكل عاجل، والتي تعرف صعوبات وأزمات كثيرة من ترد للمعدات ولوضعيتها المالية وتراكم للديون وانقطاعات متكررة للإنتاج.
ولا يمكن أن تقتصر مهمة الحكومة التونسية على الاكتفاء بكشف الأوضاع الصعبة وتسجيل الخسائر ثم ينتهي الأمر عند التوصيف. أيا كانت ظروف الحكومة وإمكانياتها المالية ومشاكلها، فيجب أن تعطي أولوية لإعادة تشغيل هذا المصنع ودعم المزارعين الذي ينتجون اللفت السكري (البنجر).
ولعل المشكلة الأهم هي مشكلة الحبوب وتوفير الدقيق المخصص لصنع الخبز. الآن تعمل الحكومة ما في وسعها لتأمين تزويد مسترسل للسوق بهذه المادة، لكنه تزويد محدود وسرعان ما تطل ظاهرة الصفوف الطويلة أمام المخابز برأسها في المدن الكبرى، أحيانا لمجرد إشاعة، وأحايين أخرى لمحدودية الكميات التي تحصل عليها المخابز من الحكومة، وهي كميات لا تكفي لعودة إنتاج الخبز وتوزيعه ولتعود المخابز إلى سالف نشاطها. وهناك مخابز تفتح بشكل متقطع لأن الإمكانيات التي تحصل عليها لا تكفيها لشهر كامل.
صحيح هناك مضاربات وعراقيل إدارية وبيروقراطية ومحسوبية في التوزيع، لكنها عوامل ثانوية أمام حقيقة الصعوبات التي تواجهها الحكومة في تأمين حصص من الحبوب.
ومع تراجع إنتاج الحبوب بنسبة 60 في المئة هذا العام مقارنة بالعام السابق تحت وطأة الجفاف، تواجه الكثير من المخابز أزمة تزود بمادتي الدقيق والسميد الأساسيتين في إنتاج الخبز، وهي وضعية قد تزداد صعوبة، وتحتاج الحكومة إلى التحرك لبحث مشاكل كبار مزارعي القمح ودعمهم، وكذلك تشجيع صغار المزارعين على استعادة نشاطهم خاصة أن أسعار القمح باتت مرتفعة جدا ويمكن أن تمثل حلا لتحسين أوضاعهم.
ويعرف التونسيون أن الجفاف ضرب الزراعة بقوة، وأن الدولة تستورد الحبوب مع أن تونس بلد منتج وكانت توفر أكثر من نصف حاجياتها بسهولة. ويعرفون أنها باتت تضطر لتوريد الخضروات من دول قريبة مثل مصر. والأمر لا يمكن تفسيره فقط بالجفاف، وإنما لأن الدولة لم تستعدّ لذلك بشكل جيد خاصة في السنوات الأخيرة، حيث تعطلت حركة بناء السدود الكبرى والمتوسطة بعد ثورة 2011 وغرقت البلاد في معارك هامشية وأوقفت خططا حكومية سابقة لتجميع مياه الأمطار وتخزينها للشرب والسقي.
كما أن الدولة تعرض الأراضي التي تعود ملكيتها إليها للكراء بأسعار رمزية، ولا تسأل كيف يتم استثمار تلك الأراضي، وبأيّ طريقة، وهل أن من استأجرها مزارع حقيقي أم وسيط، وهل سيشرف عليها بنفسه أم سيكتريها لآخرين، وهي الأراضي التي يفترض أن تساهم بدور أساسي في حل أزمة الحبوب والخضروات وتتحكم من خلالها الدولة في الأسعار.
لم تكن أزمة الحبوب فقط بسبب الجفاف وتراجع المخزون المائي. هناك معضلة أكبر وأكثر تأثيرا، وهي نزوح سكان الأرياف إلى المدن وإهمال أراضيهم بسبب صعوبة العيش هناك في غياب شبه كامل لاهتمام الدولة بهم، حيث تراجع الدعم الذي كان يقدم لصغار المزارعين على محدوديته في السابق.
وتراجعت خدمات الصحة والنقل والمساعدات التي كانت الحكومات قبل 2011 تقدمها للفقراء ومحدودي الدخل، خاصة ما تعلق بتحسين الطرقات والمسالك الزراعية وكذلك انقطاع منح تحسين المساكن، والفشل في استكمال خطط شراكة بين تونس والاتحاد الأوروبي تقوم على توسيع شبكات الطرقات السريعة لتصل إلى المحافظات المهمشة لتسهيل إنشاء المصانع وعمل المستثمرين التونسيين والأجانب بهدف تشجيع السكان في مناطقهم والتوقف عن الهجرات باتجاه الشمال والساحل أو المغامرة بالهجرة غير النظامية نحو أوروبا.
لا يمكن إلقاء مسؤولية تعثر الزراعات الكبرى والزراعات في الأراضي الصغيرة فقط على الجفاف. تتحمل الدولة مسؤولية مباشرة في هذا التراجع كذلك من خلال غياب خطط جدية لمسألة التخزين، والكف عن التعامل مع الإنتاج بشكل ظرفي.
وهناك قضية أخرى مهمة يمكن أن يحل الاهتمام بها أزمة الحليب واللحوم والبيض والتحكم في الأسعار، وهي قضية الأعلاف.
الرئيس سعيد معه حق في أن اللوبيات تربك وتعيق، وأن الدولة مهما استوردت من أعلاف فإنها تضل طريقها إلى المستحقين، وخاصة من صغار مربي المواشي. لا يحتاج الأمر إلى وكالة متخصصة بالتوزيع، فقنوات وزارة الزراعة موجودة، لكن الشيء المفقود أن مكافحة لوبيات النفوذ والمحسوبية ما يزال متعثرا ولا يستجيب للتوجه السياسي.
يمكن للرئيس أن يلتفت للزراعة والمزارعين وأن يضع خططا تفصيلية تكون نابعة من أبناء القطاع وليس من الوسطاء أو الوكلاء الذين تجدهم في كل مكان. ويمكن للدولة أن تضخ أموالا لمساعدة المزارعين على تطوير طرق العمل، وكذلك اتخاذ إجراءات تحفيزية ضرورية، حتى يشعروا بأن الحكومة تقف إلى جانبهم، ما يدفعهم إلى الاستمرار في جهودهم لتحدي عدة عوامل من بينها الطرق التقليدية في العمل الزراعي، وغياب الدعم، وخاصة قضية الديون التي تؤرق صغار المزارعين، والتي تحتاج إلى وجود الدولة بجانبهم لتفاوض البنوك وتضغط وتعطي الامتيازات والوعود لحل هذا الإشكال، فضلا عن أزمة الجفاف.
بالمجمل، حكومات ما بعد ثورة 2011، وإلى الآن ما تزال تتعامل مع الأزمات بمنطق التسوية الآنية من دون تفكير في المستقبل، وحان الوقت لتكسر الدولة هذا النمط من التفكير .