قوى اليسار وأهمية المراجعة والتجديد
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
شكل الانشقاق الذي حدث في صفوف حزب اليسار الألماني أخيرا، مناسبة للحديث بصوت عالٍ بشأن الحاجة الى تجديد الحزب وعموم حركة اليسار في المانيا، باعتبار ذلك، من بين أمور أخرى، ضرورةً لانطلاقة جديدة للحزب. الى جانب مؤسسات الحزب ومفكريه، ساهم عدد من ناشطي الحزب الشباب في المناقشات الجارية.
هذه المساهمة تستند الى مجموعة من الأفكار التي طرحها الكادر الشاب، والتي تسلط الضوء على عدد من المشتركات، في سياق حالة المراوحة والتراجع التي يعانيها العديد من قوى اليسار العالمية. وتكمن أهمية الموضوعات المطروحة في انها محاولة جدية للوصول الى الهدف المرجو.
على حزب اليسار أن يجدد نفسه كقوة تحدٍ وسعي للتغيير. وهذا يحتاج إلى استعداد للتعلم والفهم وإلى جهد استراتيجي لا يمكن أن يكون إلا نتيجة لمناقشات مكثفة واسعة ومشتركة، لا أحد يعرف مسبقا كيف ستبدو. ومع ذلك، من الضروري بدء عملية غير تقليدية للنقاش من حيث المضمون والاطر والاشكال التي تتم فيها.
ويمكن أن تؤدي الأزمات الى نهاية، أو إلى بداية جديدة يتجاوز فيها الحزب المعني نقاط الضعف المتوارثة وتراكمها الضار. لكن ذلك يتطلب جردًا موضوعيا وجريئا للمشكلات والأخطاء على أساس الرغبة الجادة في الحفاظ على ما تم تجريبه واختباره في جدلية الاستمرار والقطيعة. وإذا كانت إجابات اليسار في عام 2013 هي الحل لمشكلات عام 2023، فسيكون ذلك شكليا جدا، وبلا مصداقية.
الحاجة ماسة لحزب يساري يطرح بديلا للقوى المهيمنة، التي ابتعدت عن الجماهير وفشلت في تجاوز، وحتى التقليل من عبء ازمات النظام الرأسمالي الاجتماعية والبيئية المتفاقمة، كذلك ازمة الديمقراطية الآخذة في الاتساع، وعودة مخاطر الحروب وتعدد بؤر اشتعالها.
وفي ضوء تجربة السنوات الاخيرة، لم يستطع اليسار فيها ملء الفراغ، لأسباب موضوعية معروفة، واداء ذاتي بحاجة الى مراجعة جديدة على جميع المستويات، باعتباره &- اليسار -الاكثر جدارة في تمثيل الكادحين عموما وابناء الفئات الوسطى، الذين يتوقون إلى المزيد من الحرية.
لا بد أن يكون حزب اليسار في القرن الحادي والعشرين، حزبا يدعو إلى المساواة وحرية التنمية للناس في جميع مجالات الحياة.. حزبَ حاضر ومستقبل الاجيال القادمة، حزبا يناضل من أجل العقول والقلوب، ولا يثقل المجتمع بخطاب يصعب فهمه وحتى تفسيره، حزب الاشتراكية المتلازمة مع الديمقراطية.
ان مشكلة اليسار تتجسد في كثير من الاحيان ليس في اتخاذ القرارات في مؤتمراته، بل في القدرة على جعلها ممكنة التحقيق في اذهان الذين اتخذت من اجل مصالحهم. وهذا يجب ويمكن أن يتغير.
حزب اليسار ليس غاية
حزب اليسار ليس غاية في حد ذاته، بل يجب ان يكون اداة مهمة لابتكار وتنفيذ بديل أساسي لأزمات عصرنا، التي تحتاج إلى قوة سياسية تناضل من أجل العمال وعموم الكادحين بهم ومعهم.
يمكن لليسار الجذري أن يلعب دورًا مهمًا في معسكر قوى التقدم والتغيير، لكن اليسار لا يمكن أن يصبح حزبًا ثوريًا، وفقَ تجارب القرن العشرين التي شاخ منها الكثير، ويجب أن يركز على سياسات وبدائل مستندة لقراءات فكرية متجددة تربط الفكر بالممارسة، لتحسين حياة الأغلبية وبالتالي تشجيعهم على الانضمام الى صفوفه في السعي إلى الطريق الديمقراطي نحو الاشتراكية. لهذا نحن بحاجة إلى قوة حازمة تناضل بابتكار في سبيل ما هو آني، وتناضل أيضًا من أجل التغييرات التي تعمل على توسيع الاشتراكية اليوم باعتبارها بوابة للخروج من الرأسمالية، وقوة منظمة تناضل مع الناس من أجل التغيير، سواء في مواقع العمل من خلال النقابات، أم في الاتحادات والمبادرات المختلفة، وتذكي جذوة الاحتجاج وكشف المستور.
ويعني هذا أيضًا: ليس لليسار مستقبل، إذا حاول ان يكون نسخة من قوى الوسط، او من دعاة الليبرالية. ولذلك يحتاج اليسار إلى استراتيجية شعبية مقنعة تعمل على بناء قوة مضادة من الأسفل، قوة شعبية تنال اعجاب كل من أُهمل سياسيًا وتخلت عنه النخب الاقتصادية والسياسيون المخلصون لها: سواء العاملين في أمازون، أم المسنين الذين لا يجدون من يتكفلهم، او الذين يعانون العنصرية واشتداد ازمة المناخ. فالحاجة ماسة لحزب يكون عنواناً سياسياً موثوقاً به وشريكاً وحليفا لقوى التقدم الحقيقية في البلاد.
محاور المناقشات
في البدء ضرورة تحديد الاسئلة الأهم لتناولها، دون افتراض قمة المعرفة المسبقة. هناك بالتأكيد الكثير، ولكن ربما تحتل هذه العناوين الأولوية:
أولاً: يريد اليسار أن يكون حزباً طبقياً بمعنى أنه يضع الاستغلال والقمع والحرمان المرتبط بالبنية الطبقية في مركز عمله، ويناضل مع المستَغلين والمضطهَدين والمحرومين من أجل همومهم ومصالحهم، لفتح افق التحرر الاجتماعي. لكن لا يوجد حاليا تشخيص مشترك على نطاق واسع بشأن أي أجزاء من الطبقات الدنيا (التي تعيش ظروف معيشة وعمل مختلفة للغاية، وقناعات سياسية أكثر تنوعا) تستحق الأولوية. كذلك أي الصراعات والمشكلات التي ينبغي ان تتمتع بخصوصية، وما هي التدابير التي يتعين اتخاذها، وكيف نريد بناء السلطة الطبقية من أجل تنفيذ الإصلاحات واتخاذ خطوات نحو الاشتراكية الديمقراطية. ان هناك ثروة من الخبرة المكتسبة في العقود والسنوات الماضية، على صعيدي الممارسة والحوار الموضوعي، يجب توظيفها.
ثانيا: ننحدر من تقاليد اليسار الذي أصر، على الأقل منذ أواخر السبعينيات، على الجمع بين الحركة العمالية القديمة (التي يتعين عليها دائما أن تجدد نفسها) والحركات الاجتماعية الجديدة، لابتكار مشروع سياسي مشترك. من الواضح ان الحديث عن ذلك أسهل من القيام به. في رأينا، لا يمكننا أن نتعلم إلا ونحن نمضي قدمًا ونوضح القضايا الخلافية. على سبيل المثال، لا يمكن مناقشة او رد الانتقادات التي أعرب عنها بعض الرفاق بأن "عالم العمل" مهمل او ينال اهتماما محدودا، الا من خلال العمل مع الآخرين بطريقة عملية للغاية بنقاشات مفتوحة ومشتركة مع النقابات العمالية والحركات الاجتماعية في سبيل ظروف عمل أفضل، والمزيد من الاستثمارات. وبمنظور أوسع، نحتاج إلى أن نناقش بمزيد من التفصيل كيف يمكن الربط بين الحركات الاجتماعية القديمة والجديدة، مع الإقرار المسبق، بأن السياسات الطبقية القديمة كانت دائمًا أكثر من مجرد سياسات محصورة في المصانع والنقابات.
ثالثا: نريد حزبا يناقش بصراحة ويواجه الشعب. يجب على أي حزب يساري حقيقي أن يحافظ على التوازن بين النشاط في المبادرات والحركات التي تعمل فيها مجاميع طورت وعيًا سياسيًا أكثر راديكالية، بشأن القضايا الاقتصادية والاجتماعية أو حول العنصرية أو البيئة أو العلاقات بين الجنسين. وهناك حاجة لكسب أكبر عدد ممكن من هؤلاء، سواء في مجالس المصانع أم نشطاء المبادرات التي تهتم بالحاجات اليومية، أم في الحركات الاوسع لمناهضة العنصرية او حماية البيئة. وهناك ضرورة لتحريك وتنظيم المترددين. وهذا يتطلب سلوكًا منفتحًا وفضولًا واستعدادًا للعمل مع غالبية الذين لديهم وعي يومي متناقض. نريد حزباً يفتخر بكونه يسارياً، ولهذا السبب على وجه التحديد يكون منفتحاً ومستجيباً لأولئك الذين هجرتهم النخب والأحزاب الرئيسة سياسياً.
رابعاً: تلعب اسئلة الحرب والسلام وسياسات الامن دورا محوريا بالنسبة لليسار، وقد شكلت تقريباً هوية للعديد من الرفاق. ونعلم أيضًا أنه في السنوات الأخيرة، هناك صعوبة بالغة في هذا المجال لإقناع الناس بما يعتقدون أنها مواقف اليسار. من الضروري الاجابة على ماهية السياسة الخارجية والأمنية التي تعزز التعايش السلمي بين الشعوب، لأن السلام هو أكثر من مجرد وقف لإطلاق النار. السلام يعني تعزيز حقوق الإنسان والديمقراطية والتقدم الاجتماعي. ماذا يعني ذلك على وجه التحديد في عالم تلوح فيه المواجهات الإمبريالية؟ على اليسار ان يتذكر ان الإجابة السياسية المجردة ليست إجابة سياسية جيدة أبدًا. ولا يزال الكثير يحتفظ براهنيته: يجب أن تكون هيكلية الجيش للدفاع وليس للهجوم، وان تتعزز التدابير الاقتصادية ودور المجتمع المدني لتعزيز السلام والتعاون في العلاقات الخارجية، ورفض الناتو وسباق التسلح، وبناء جيش اوربي. من يقتنع بهذه السياسة الأمنية والدفاعية؟ ليست هناك إجابات جاهزة، ولكن الكثير من الأسئلة. وبقدر ما تتراكم المعرفة، يزداد عدد الذين يثقون بسياسات اليسار.
خامسا: إن الحزب الذي يرى نفسه بديلا للأحزاب الأخرى، يجب ان ينأى بنفسه بوضوح عن السياسات السيئة لهذه الأحزاب: بدون معارضة حاسمة، لن يكون هناك تقدم اجتماعي. وبالتالي فان تحديد الموقع في الصراع ضروري. يجب أن نكون حزبا مناضلا من أجل المساواة والحرية، وفي جميع المجالات المهمة التي تؤثر على البلاد، سواء في سوق العمل وسياسة الدخل، أم في اللجوء والهجرة أم في سياسة المناخ. وعلى الحزب توضيح كيف يريد تحقيق أهدافه، وبالتالي يجب ان تكون لديه خطة مقنعة توضح كيف تتحول الرغبات والواجبات إلى قوانين. ليس الهدف طرح افكار الحزب الخاصة فقط، بل توضيح موقفه من الأحزاب الأخرى.
لنمنح مشروع اليسار المستقبل الذي يستحقه، بشجاعة ومثابرة، ونقد ذاتي، واستعداد للتعلم، باعتبار أن هذه هي الطريقة الوحيدة التي يمكن من خلالها أن يصبح اليسار أقوى.
التعليقات
تصحيح
رشيد غويلب -المقالة اعلاه تعود لي (رشيد غويلب) وليس للباحث الاستاذ رشيد الخيون. لقد وقع خطأ تم تصحيحه الآن في موقع جريدة المدى، حيث نشرت صورة الباحث الخيون بدلا من صورتي. ويبدو ان محرر ايلاف ركز على الصورة فنشر المادة باسم الاستاذ الخيون. ارجو تصحيح الامر مع الاعتزاز والتقدير
شكرا للأستاذ رشيد غويلب على التنويه
إيلاف -شكراً للأستاذ رشيد غويلب على التصويب.. لقد تم تصويب نسب المقال. خالص الود. التحرير