انتخابات مجالس المحافظات العراقية واختبارات الجديدة للتنسيقي
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
اجتاز العراق مؤخراً انتخابات مجالس المحافظات، المعطلة منذ آخر انتخابات لها في 2013، لتحل واحدة من المشاكل القانونية والدستورية لكن من دون أفق بخصوص حل المشكلة الأصعب. تتعلق هذه المشكلة بضعف الشرعية الشعبية للنظام السياسي والمقاطعة المتزايدة له، ما يفتح الباب لتقويضه عبر الشارع وصناعة المزيد من عوامل الاضطراب المستقبلي.
من الناحية التقنية، مضت هذه الانتخابات بسلاسة عموماً، خصوصاً في "التصويت العام" الذي يشمل عموم المصوتين من غير القوات الأمنية. هذه الأخيرة تشارك عبر "التصويت الخاص" الذي يجري في المقرات العسكرية ويسبق التصويت العام بيومين هذه المرة. شابت التصويت الخاص مشاكل فنية في عمل الأجهزة الإلكترونية، الأمر الذي قاد إلى عد الأصوات يدوياً وليس إلكترونياً في محطات كثيرة. في العادة، يقلق الكثير من العراقيين، ولأسباب وجيهة، من عد الأصوات يدوياً لأنه يفتح الباب على احتمالات التلاعب بالأصوات وتزويرها. كما نجحت المفوضية العليا للانتخابات، المؤسسة المكلفة بإدارة الانتخابات، بإعلان النتائج الأولية، بحدود 94 بالمئة من الأصوات، خلال 24 ساعة من نهاية الاقتراع، وهذا تطور تقني وإجرائي مهم بدأ في انتخابات 2021 وتواصل عبر هذه الانتخابات. في السابق، كان على العراقيين أن ينتظروا أسابيع قبل معرفة نتائج الانتخابات بسبب اعتماد العد اليدوي، وهو ما كان يثير الكثير من الشكوك بخصوص التزوير والتلاعب بالنتائج. كان لافتاً للانتباه في هذه الانتخابات أنه لم ترتفع تهم التزوير بعد إعلان النتائج الأولية كما كان يحصل في الانتخابات العراقية السابقة، بضمنها انتخابات 2021. في خلال الأيام القليلة المقبلة، ستعلن مفوضية الانتخابات النتائج النهائية، وإذا صمدت هذه النتائج، من دون تغيرات كثيرة على أساس النسبة القليلة المتبقية من الأصوات التي لم تُعد، فهذا يعني أن تقدماً مهماً يحصل في طريقة إجراء الانتخابات من الناحية التقنية يمكن لها أن تُساهم في إعادة ثقة الجمهور بالانتخابات.
لكن قد يكون هذا التقدم جاء متأخراً، بعد أن فقدَ معظم الجمهور الثقة بالنظام السياسي وبإمكانية إصلاحه عبر المشاركة في الانتخابات والدفع بوجوه وأحزاب جديدة تتولى عملية الإصلاح. ظهر فقدان الثقة هذا جلياً في المقاطعة الشعبية الواسعة. حسب الأرقام الرسمية التي نشرتها المفوضية، فإن نسبة المشاركين هي 41 بالمئة. لكن هذه النسبة مُضللة بسبب طريقة حساب نسبة المشاركين مقابل المقاطعين أو غير المشاركين. منذ الانتخابات البرلمانية في عام 2018 تحسب المفوضية نسبة المشاركة الانتخابية من خلال مقارنة عدد العراقيين المسجلين للتصويت والذين لديهم بطاقات بايومترية تسمح لهم بالتصويت، بعدد العراقيين الذين صوتوا فعلاً في الانتخابات. تؤدي طريقة الحساب هذه إلى زيادة نسبة المشاركين على نحو غير حقيقي، لأنها لا تأخذ بنظر الاعتبار الذين يحق لهم التصويت من عمر 18 عاماً فما فوق ولم يسجلوا للتصويت وهو المعيار العالمي لحساب نسبة التصويت (أو حساب نسبة المشاركة عبر مقارنة عدد المصوتين بعدد المسجلين عندما يكون التسجيل للتصويت الزامياً حسب القانون لمن يبلغون العمر القانوني الذي يسمح لهم بالتصويت، غالباً 18 فما فوق) . عند تطبيق المعيار العالمي على الانتخابات العراقية الأخيرة، فإن نسبة التصويت الحقيقية هي بحدود 28 بالمئة، أي بحدود ثلاثة أرباع العراقيين لم يشاركوا في الانتخابات الاخيرة. في الانتخابات الأولى التي نُظمت في البلد في عام 2005 بعد سقوط نظام صدام، كانت نسب المشاركة عالية، بحدود 70 بالمئة من الذين يحق لهم التصويت. تشي الفجوة بين هذه النسب عبر السنوات بحجم الانفصال الآخذ بالاتساع بين النخبة السياسية الحاكمة والمجتمع.
تعني هذه النسبة المنخفضة من التصويت بما تكشفه من الانفصال الغاضب والمشروع للمجتمع عن السياسة بصورتها العراقية الفاسدة القائمة على الإقطاعية الحزبية والطائفية السياسية والنهب المنهجي لموارد الدولة، أشياء كثيرة ينبغي أن تقلق زعماء النظام السياسي الذين تصدروا مشهد السياسة والحكم منذ إطاحة نظام صدام في 2003. لم تظهر علامات القلق هذه على الإطار التنسيقي الحاكم، الذي خاض الانتخابات بعدة قوائم متنافسة حازت، مجتمعةً، على أغلبية المقاعد في محافظات الوسط والجنوب، إذ سارع زعماؤه إلى التصرف كمنتصر مبتهج يهمه تأكيد انتصاره وحصد نتائجه، عبر اجتماعهم وتشكيلهم لجنة "لوضع خارطة طريق سيعُلن عنها فور المصادقة النهائية على نتائج الانتخابات من قبل المحكمة الاتحادية حل للمضي في تشكيل الحكومات المحلية خاصة وأن له [الإطار] في محافظات الوسط والجنوب".
في سياق سياسي مختلف يقوده حس المسؤولية الأخلاقية والمخاوف المشروعة من أزمات مقبلة وعميقة، وليس اعتبارات الفوز والخسارة بمعناهما الانتخابي المباشر المأزوم سياسياً ومؤسساتياً في العراق، يُفترض بالإطار التنسيقي، بوصفه الطرف الأقوى في النخبة السياسية الحاكمة، أن يشكل لجنة أخرى، أكثر أهمية بكثير من لجنة تشكيل الحكومات المحلية (التي ينبغي أن تتُرك للمحافظات ومعادلاتها المحلية لا أن تُدار مركزياً من بغداد) تتولى فتح حوار حقيقي وصريح مع المجتمع بخصوص أسباب عزوف معظمه عن المشاركة بالانتخاب. مثل هذا الحوار، لو فُتح على نحو جدي ومخلص، وليس مجاملاً وموارباً وشكلياً كمعظم الحوارات "الوطنية" التي نُظِّمت بعد عام 2003، سيساعد النخبة الإطارية الحاكمة على فهم هواجس المجتمع وخيباته العميقة من السياسة وأسلوب إدارتها في البلد التي فاقمت أزمات الفقر والخدمات وهشاشة الدولة وانقطاع الأمل وشحة الفرص الاقتصادية.
من الصعب على مجموعة سياسية كالإطار التنسيقي، ببنيتها الأيديولوجية، القيام بمثل هذا الأمر وفتح حوار حقيقي ومسؤول مع المجتمع يقود إلى خطوات عملية تساعد على ربط المجتمع بالسياسة والمؤسسات وتنعكس مشاركةً انتخابيةً شعبية أعلى. فعلى الأغلب، تؤدي مثل هذه المشاركة الانتخابية الأعلى إلى خسارة الإطار مواقعه السياسية في الدولة، فمعظم الذين يقاطعون الانتخابات هم من الجمهور الغاضب على الإطار التنسيقي ولن يصوتوا له بسبب تركة سياساته الفاشلة التي قادت البلد إلى المنزلق الصعب الذي لا يستطيع الخروج منه لحد الآن بسبب رفض القيام بالإصلاحات الجدية والكبيرة.
عندما تنتهي نشوة النصر الانتخابي، سيكون بانتظار الإطار التنسيقي اختباراً أشدَ وأطول وأبعدَ مدى يتعلق بكيفية إدارته للمحافظات التي يسيطر على مجالسها. كانت تجربة الإطار السابقة في إدارة هذه المحافظات قبل تعليق مجالسها رسمياً، وعلى نحو غير دستوري، في عام 2019 فاشلة تماماً لتصبح أحد مغذيات الغضب الشعبي الذي أعلن عن نفسه واضحاً وقوياً في احتجاجات تشرين. الآن أمام الإطار فرصة ثانية في إدارة هذه المحافظات. لن يكون النجاح سهلاً ابداً خصوصاً إذا لا يتعلم الإطار من أخطائه السابقة الفادحة. في آخر المطاف ليس للإطار سجل يُعتد به في التعلم من الأخطاء وصناعة النجاحات. ستختبر مجالس المحافظات الجديدة هذا السجل مرة أخرى.