جريدة الجرائد

معارك العلوم

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

أخطر شيء في عالم المعرفة والفكر هو دفاع المفكر عن أفكاره، وقد تكون هذه ملاحظةً غريبةً، ولكن لو تأملنا بفكرة الدفاع عن الأفكار للمسنا فوراً أنها تعني الدفاع عن الذات وليس عن الفكرة، لأن الفكر انفتاحي وتطوري ويمسه التغير، والتغير شرط لحيوية أي فكرة على أن ثبات الفكرة يعني تعطل الحس التفكري فيها. ومذ طرح أفلاطون نظريته عن المحاكاة ليجعلها سبباً لازدراء الفن والتقليل من قيمة الإبداع بوصفه محاكاة للأصل الطبيعي إلى معارضة أرسطو لأستاذه حيث جعل المحاكاة قيمةً عليا بوصفها تحويلاً للواقع إلى متخيل لا يشبه الواقع إلا شكلاً، ولكنه يعيد صياغة الواقع، وكأنه في عرفنا يعيد كتابة الواقع بصيغة إنسانية تمثل حال الواقع في الذهن البشري وليست حال الواقع الواقعية فبشار بن برد مثلاً حين قال:

كأن مثار النقع فوق رؤوسنا/ وأسيافَنا ليلٌ تهاوى كواكبه

لم يكن يحاكي الواقع. فقد ولد أعمى ولم ير الواقع ولا حركة السيوف وسط غبار المعركة وكيف تتهاوى. وبكل تأكيد فإن ما جاء في بيت بشار لم يرد لدى أي شاعر قبله، في حين أن المبصرين من مبدعي الشعراء لن يفوتهم التقاط الصورة الواقعية لو كانت الصورة قابلة

للمحاكاة. ولكن الكفيف بشار رسم هذا المنظر المهول لأنه لم يره بعينيه. وهنا سر الإبداع بما أنه تخييل لصور مصدرها ذهنيٌّ وليس عيانياً، وهذا ما يرجح نظرية أرسطو التي طورها الجرجاني ومن بعده القرطاجني حول نظرية (التخييل) وهي تعني تحويل الواقعي إلى ذهني ومتى ما أصبح ذهنياً فإنه يغادر واقعيته ليكون مادةً متخيلة أي قابلة للابتكار، وهذا يشير إلى أن مقولة أفلاطون عن المحاكاة إنما ولدت لكي تتعرض للتحويل وتفتيح مسارها نحو مفهوم مختلف وصل عند الرومانسيين إلى مفهوم (التعبير) أي أن الإبداع ليس محاكاةً للواقع ولكنه تعبير عما في داخل الذات، والتعبيرية هنا هي تطوير للمحاكاة وتحويل لها وليست تكراراً مفاهيمياً، وهذه حال كل فكرة كبيرة من حيث هي قابلة للتطوير والتحويل، ولذا فإن الدفاع عن الأفكار يجمدها في بوتقة الثبات ويجعل الدفاع مشروعاً لقتل الفكرة بينما الأصح هو شرح الأفكار وليس الدفاع عنها.

وكل عالم يتصدى لشرح فكره عوض الدفاع عنه فإنه سيفتح أبواب الحيوية لفكرته لا أن يغلق الأبواب، وهذا هو ما نعنيه بفكرة (الناقد منقوداً) لأن نقدنا للناقد يكسر سلطة الفردانية والتسلط على الفكرة ويفتح آفاق التحول المعرفي وتنامي الشجرة المعرفية وديمومتها تبعاً لحيويتها، أي حياتها المنفتحة على المطلق المعرفي. ولو جرى مثلاً الدفاع عن نظرية أفلاطون وتحصينها لما تم لها هذا التطور الذي عبر حواجز الأزمنة والثقافات.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف