السودان.. طبخة جديدة لإحياء «الإطاري»
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
كان منظر بعض القوى المدنية السودانية وهي تتسابق في أديس أبابا العاصمة الأثيوبية لمصافحة قائد مليشيا الدعم السريع حدثا محبطا للشعب السوداني الواقع تحت لهيب جرائمه التي سارت بها الرياح ولم يعرف لها مثيلا في تاريخ البلاد، وهي جرائم وثقها أفراد المليشيا بأنفسهم مجاهرةً بجرائمهم من قتل واغتصاب وسرقة في ظاهرة فريدة من نوعها، فالمجاهرة بالمعصية كبيرة من الكبائر التي تميت القلوب وتقضي على الحياء.
إن العمل الذي قامت به تلكم المجموعة المدنية السياسية بمصافحة أياد ملطخة بدماء شعبهم، أنطق كاميرون هدسون المسؤول السابق في البيت الأبيض والمبعوث الأمريكي السابق للسودان وجعله يبدي اشمئزازه. وكتب مغردا في حسابه بمنصة إكس: (إن مشاهدة القادة المدنيين المفترضين في السودان وهم يعاملون الشخص الذي يدمر بلادهم ويغتصب نساءهم وينهب منازلهم مثل أخيهم هو أمر مثير للاشمئزاز حقًا، ولا يمنحني أي أمل في مستقبل البلاد. إنها خدمة لمصالح ذاتية وخيانة مخزية لكل السودانيين).
ولعل ذلك التداعي الذي تم في أديس أبابا كان لأجل توقيع اتفاق سياسي يخدم مصالح الطرفين وأطرافا خارجية، لا مصالح الشعب السوداني؛ فالمليشيا تبحث عن طبخة سياسية لتبييض وجهها وغسل عار جرائمها. أما مجموعة القوى المدنية التي سمت نفسها اختصارا (تقدم) وهي نسخة جديدة من قوى الحرية والتغيير المعروفة اختصارا (قحت)، حيث تسعى لركوب دبابات المليشيا لتأتي بها إلى السلطة، أما الأطراف الخارجية فتسعى للتمكن من ثروات البلاد. الطرفان وقعا اتفاقاً سياسياً فضفاضاً خلاصته أنه نتاج مساومة سياسية واستجابة لمخاوف من الملاحقة الجنائية ومطامع أطرافه. وهو نسخة لذات الاتفاق الذي كان من أسباب الحرب وهو ما عرف بالاتفاق السياسي الإطاري. فالاتفاق الجديد وصفة جديدة لاستمرار الاضطراب السياسي في البلاد. وقد كان الاتفاق الإطاري الموقع بالأحرف الأولى في ديسمبر 2022 يقضى بأن تدير الفترة الانتقالية جهة حزبية أو ائتلاف حزبي لمجموعة صغيرة من الأحزاب وهو تحالف (قحت). وكان مثاراً للسخرية أن كان وجود ممثلي الأطراف الدولية أكثر من وجود الأطراف السودانية. فقد كان هناك تكالب دولي وإقليمي فات حد المعقول فكان من أبرزهم: الآلية الثلاثية المسهلة للحوار المكونة من دول &"إيقاد&"، والاتحاد الأفريقي، وبعثة الأمم المتحدة لدعم الانتقال، والآلية الرباعية المكونة من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وبلدين إقليميين. وقد هدفت تلك الأقلية بمعاونة أطراف خارجية إلى تشكيل الفترة الانتقالية تشريعياً وقانونياً وتجيير ذلك لصالحها وتفكيك الجيش والتمكين للمليشيا، ولا حاجة لانتخابات طالما حصلت على السلطة بدون جهد وعناء وتنافس شريف وحر ونزيه، فهي لا تتعجّل الانتخابات لتدخل في مخاطرة فقدان كل السلطة أو حتى جزء منها.
وقد دعت حالة عدم اليقين لدى أطراف ذلك الاتفاق تسميته بـ &"الإطاري&" فقد حمل مضامين فضفاضة تسمح لكل طرف بهامش عريض من التفسيرات التي يظن كل طرف أنها حققت له مكاسب سياسية على حساب الطرف الآخر. ولذلك أعلن رئيس مجلس السيادة وقائد الجيش الجنرال عبد الفتاح البرهان أن الاتفاق الإطاري يظل مفتوحا للنقاش والمشاركة من الأطراف الأخرى المتفق عليها لتطويره في المرحلة الثانية لاتفاق نهائي وترتيبات دستورية انتقالية وهو ما لم يعجب مجموعة (قحت) ومن خلفها قائد مليشيا الدعم السريع وهددوا إما يبقى الاتفاق مقصوراً عليهم أو الحرب. فكانت أهم نقاط ضعف الاتفاق الإطاري أنه لم يكن يمثل كل السودانيين ولا قضايا الهوية ولم يتجاوز كونه اتفاقاً سياسياً لتقاسم السلطة بين عسكريين يواجهون ضغوطاً داخل المؤسسة العسكرية ومدنيين منقسمين وغير مفوضين ولاهثين نحو كراسي السلطة لهثاً. بل إن الاتفاق قسّم السودانيين إلى درجتين مواطنين درجة أولى يختارون رئيس الوزراء ومواطنين درجة ثانية تتم مشاورتهم في اختيار الوزراء فقط، وبالطبع هناك أغلبية غالبة ليس لها، لا في العير ولا في النفير. ولذلك كان ذلك الاتفاق المعلول لا يؤسس لديمقراطية تقوم على الفصل بين السلطات إذ إن مجلس العدل الانتقالي الذي تعينه قوى سياسية هو الذي يختار رئيس القضاء ونوابه والنائب العام ومساعديه ورئيس المحكمة الدستورية وأعضاءها والمراجع العام.
إن التحالف الذي يضم مليشيا الدعم السريع وبعض القوى المدنية (قحت) أو (تقدم) فضلا عن القوى الخارجية، يهدف في المقام الأول إلى ضرب الجيش السوداني لتستباح البلاد في كيانها الجيوسياسي المعلوم وثرواتها تحت الأرض وفوق الأرض. وفي جدل ذلك الاتفاق الإطاري، ذهب قائد مليشيا الدعم السريع بعيدا في جسارته على الجيش الوطني ومغازلة القوى السياسية المدعومة أجنبياً، زاعما أن الجيش يحتاج لجراحة عميقة. فكان التحرش واضحا، ولذا عندما أطلقت المليشيا الشرارة الأولى في 15 أبريل الماضي للانقلاب على الجيش بتحريض من تلك القوى المدنية ودعم إسناد خارجي لم يكن صعباً على كل مراقب تفسير ما جرى ويجري اليوم.
ومثلما كان مشروع الاتفاق الإطاري يُخرج مليشيا الدعم السريع من تبعيتها لقائد الجيش السوداني ويضعه لوحده تحت إمرة رئيس وزراء غير منتخب تفرضه (قحت) القوى الأجنبية على السودانيين، فإن اليوم يراد لطبخة حديدة قديمة أن تحقق ما لم يتحقق بالاتفاق الإطاري. لذلك تتعالى الأوساط الوطنية والشعبية تطلب من رئيس مجلس السيادة وقائد الجيش الجنرال البرهان بألا يشترك في هذه المسرحية الهزلية فمقامه عند شعبه وجيشه الباسل أكبر من هذه المهازل والخطط المكشوفة ضد كيان الدولة السودانية. هذه الجَلَبات واللقاءات المصطنعة والمعطونة في الابتسامات الصفراء، هي طُعم لاصطياد أكبر وأهم مؤسسة وطنية قومية. وإن كان من بد فليذهب أحد مساعديه، فالبرهان قائد الجيش بكل خبرته وتأهيله وذاك قائد مليشيا إجرامية من شتات دول مجاورة. إن الشعب السوداني ينتظر قائد جيشه ألا يترك قيادة معركة الكرامة لأجل لقاء المهانة.