جريدة الجرائد

الإمارات بين نموذجي إسبرطة وفلورنسا

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

تتحرك السياسة الإماراتية بديناميكية وفعالية وحزم على المستويين الإقليمي والدولي، ويتجلى ذلك في سلوكها تجاه حرب غزة، ودورها في التوصل لأكبر صفقة لتبادل أسرى الحرب بين روسيا وأوكرانيا مؤخراً، والجولة الخارجية التي قام بها صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، إلى كلٍ من أذربيجان والهند الأسبوع المنصرم.

ولذلك أصبحت السياسة الخارجية لدولة الإمارات موضوعاً ثرياً للنقاش في الأوساط السياسية والأكاديمية. وفي هذا الخصوص، طُرحت عدة منظورات لتحليل وفهم السياسة الخارجية الإماراتية.

ففي البداية، وبفعل السياسة الإماراتية الحازمة وأحياناً الاستباقية وعدم ترددها في استخدام القوة الصلبة تجاه مصادر الاضطراب والفوضى والتطرف في العالم العربي إبان ما عُرف ب &"الربيع العربي&"، استخدم البعض، وفي مقدمتهم وزير الدفاع الأمريكي السابق &"جيمس ماتيس&" نموذج إسبرطة، وهي دولة- مدينة يونانية قديمة، لفهم السياسة الخارجية الإماراتية.

واتضح فيما بعد مدى قصور هذا المنظور؛ إذ إن دولة الإمارات ليست كإسبرطة توظف قوتها العسكرية للتوسع والتمدد الإقليمي على حساب دول الجوار. كما أن توظيف القوة العسكرية الإماراتية، سواء في البحرين أو اليمن أو في ليبيا، كان لإخماد مصادر الاضطراب الإقليمي، وفي إطار مظلة المشروعية الإقليمية والدولية. وبعد أن حققت كل أو بعض أهدافها، عادت السياسة الإماراتية إلى سيرتها الأولى في تصفير المشكلات مع دول الجوار، والتركيز على التنمية الاقتصادية، وتنويع الشركاء، والعمل في إطار المنظمات الدولية والأطر متعددة الأطراف.

ثم طُرح النموذج السنغافوري لفهم السياسة الخارجية الإماراتية. فقد جعلت دولة الإمارات من نفسها المركز المالي في الشرق الأوسط، وأقامت علاقات اقتصادية مع كل الدول في المنطقة تقريباً، بما في ذلك إسرائيل، فضلاً عن الدول الكبرى، كالولايات المتحدة وروسيا والصين. بعبارة أخرى، تتطلع الإمارات إلى توظيف سياستها الخارجية، مثل سنغافورة، لتكون قوة اقتصادية عالمية من أجل تعويض صغر حجمها الجغرافي والديمغرافي. ولتحقيق هذه الغاية، أبرمت الإمارات صفقات تجارية جديدة، واستثمرت في مشاريع خارجية، وانخرطت في شراكاتٍ اقتصادية استراتيجية عديدة. وأخيراً، طُرح نموذج فلورنسا، أو مدينة البندقية، في ظل حكم آل ميديشي (1434-1737) لفهم وتحليل السياسة الخارجية الإماراتية.

وفي هذا الإطار، جاءت دراسة نيل كويليام وسنام وكيل، في دورية &"فورين آفيرز&" الأمريكية، في ديسمبر الفائت، بعنوان: &"آل ميديشي الشرق الأوسط: كيف تخطط دولة الإمارات العربية المتحدة لصعودها؟&" وتتلخص الأطروحة الرئيسية لهذه الدراسة في المشابهة بين تنامي الدور الخارجي لدولة الإمارات حالياً مع الصعود الإقليمي والدولي لفلورنسا في ظل حكم آل ميديشي في الفترة الممتدة من منتصف القرن الخامس عشر حتى منتصف القرن الثامن عشر. فقد أصبحت فلورنسا، برغم تواضع حجمها الجغرافي ومواردها الديمغرافية، فاعلاً دولياً رئيسياً عن طريق استخدام التجارة والخدمات المصرفية للتأثير في الإمبراطوريات الأكبر في جوارها. فقد أقامت فلورنسا تحالفاً دائماً مع فرنسا، وحافظت على علاقات دبلوماسية قوية مع بريطانيا، وعززت روابطها مع الإمبراطورية الرومانية المقدسة، وأصبحت مركزاً محورياً للنشاط الاقتصادي والاكتشافات العلمية والإنجازات الثقافية.

والواقع أنّ ثمة أوجهاً كثيرة للتشابه بين التجربة الإماراتية وتجربة فلورنسا، سواء فيما يتعلق بصغر الحجم الجغرافي وقلة الموارد البشرية، وضخامة القدرات الاقتصادية والمالية، والموقع الاستراتيجي في منتصف الطريق بين أكبر الاقتصادات في العالم، والاندماج عالي المستوى في عمليات الاقتصاد الدولي، وتنوع الشركاء في القارات المختلفة، وجاذبية النموذج التنموي وعناصر القوة الناعمة. فضلاً على ذلك، فإنّ الإمارات غدت، كما كانت فلورنسا من قبل، مركز جذب للاستثمارات الأجنبية والعقول والمهارات البشرية من المنطقة والعالم بفعل سياستها القائمة على تعزيز التنوع الثقافي والتسامح الإنساني.

ومع ذلك، ثمة عناصر تباين بين التجربتين الإماراتية والفلورنسية، ليس أقلها مؤسسية التجربة الإماراتية في السياسة والحكم؛ ما يؤهلها للاستمرار والنمو، بينما لم تتمكن عائلة ميديشي من الحيلولة دون انهيار تجربة فلورنسا بفعل النزاعات الداخلية بين أعضائها؛ ما سوغ للقوى الأجنبية التدخل في شؤونها.

*متخصص في العلاقات الدولية والقضايا الجيوسياسية

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف