انشطار المكتوب عن الشفوي
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
ألقيت الكثير من المحاضرات حول العديد من القضايا الأدبية، وربما كانت معظمها شهادات عن تجربتي الروائية، ومع تقدم وسائل ثورة المعلومات بقيت متمركزاً بأن المعلومة وفيرة بينما معرفة كيف تم الوصول إلى تلك المعلومة ظل قاصراً لدى الباحث عن المعلومة (بضغطة زر)، وهناك فرق بين المعلومة والمعرفة، لندع هذه النقطة، وأعرّج عن تفلت الكنوز الشفوية كحديث، نعم لازال الكثيرون يسعون لتوثيق الشفوي الذي مرّ بنا، إلا أن هناك نقطة في منتهى الدقة، تتفلت منا، وهي حرارة السارد الشعبي، وتلون صوته، واختفاء حركته، وصمته، ومواصلته للحديث، أمور كثيرة تلازم الحكاء الشعبي.. نعم أنا ابن الحكاية الشعبية، فأول المدارس التي التحقت بها هي الجلوس أمام (حكاءة) والإصغاء الجيد لكل ما تقوله.. وربما كانت هذه البداية الأولى لمعرفة أثر الحكاية على الحضور.. ومنذ ذلك الزمن وأنا أحاول الإمساك بسر الحكاية.. سر أن تتحدث والجميع يصغي.
هل للحكاية جن أو ملائكة حتى يغدو السامع قطعة من متعة تسيل اشتهاءً وعسلاً بتدفق الحكاية، في طفولتي تلك كنت لا أريد سوى تتبع الأحداث وكأنها القناة (الفنية) التي تجرى بها الحياة.
وعندما (فتحت الخط) بدأت أتتلمذ على الحكاية المكتوبة، وظللت سادراً في متعة المكتوب، إلا أن عالمي الشفوي، والمكتوب بينهما مساحات كبيرة يسكنها الفراغ.
فالانتقال من الشفوي إلى المكتوب أحدث فوارق مهولة وأثراً على الحكاية في معطياتها الدلالية؟ وحركيتها المتسارعة.
فالحكاية الشعبية لها تقنيات مختلفة عن المكتوب.. فالسرد الشعبي حر، طليق بينما المكتوب كائن سجين، وعلى المتلقي أن يكون عالِماً بالاختلافات الجوهرية في سرد الحدث بين الصياغتين.
فالشفوي جاذب للسمع، والمقروء جاذب للبصر وبين السرعتين تختلف المتعة.
في فترة سابقة نشطت الأندية الأدبية في الاحتفاء بالقصة وأقيمت الأمسيات المتعددة وفي كل أمسية قصصية تظهر الفروقات بين المسموع والمكتوب.
وإن كانت تلك الأمسيات ملتزمة بالمكتوب، والمتدرب على سماع الحكايات الشفوية يضيق ذرعاً بما يقال، لأن السارد مثل من يحمل بطيختين بيد واحدة، هو يريد إسماعك قصته إلا أنه متورط في المكتوب، والنجاح مرتهن بالمقدرة التمثيلية للقاص بحيث يستعير جزءاً من أدوات السارد الشفوي.
وأهم مميزات السرد الشفوي:
- الإعادة المستمرة للزمات تكون فاصلة الانتقال من حدث لآخر.
- إدماج الحكاء كل الحواس أثناء السرد من يد، وعين، وحركة جسد، وتلوين صوت، وتمثيل حالة الحدث تهويلاً أو خضوعاً.
- مشاركة المستمع في الحكي استدراكاً أو مضيفاً، أو مستفسراً.
متعة الحكي تختلف باختلاف الزمان والمكان أثناء قراءة الحكاية المكتوبة، بينما الحكاية الشعبية اتخذت من الليل سكنى لها، عادة لا يقتعد لسماع الحكاية إلا ليلاً.
- نفسية الحكاء الشعبي تؤثر في السرد إيجاباً أو سلباً وكذلك نفسية المستمعين، فأي منهما يجري الكدر في داخله، تتباطأ حالة السرد كمؤشر لضيق نفسية أي منهما.
- وفي الحكاية الشعبية يتم إضافة أحداث، أو إلغاء أحداث.
- كل سارد لحكاية شعبية يضيف ويحذف.. قد تكون هذه أهم سمات الحكاية الشعبية، بينما القصة المكتوبة تحفل بجوانب أخرى.
- بعد الانتهاء من كتابة الحكاية تمنع عنها الحذف أو الإضافة، إذ تكون في حالة اكتمال.
- وكلما كان أسلوب الكتابة متقدماً كلما صعب على القارئ التواصل الحقيقي مع الحدث.
- القصة المكتوبة لا يعود لدى السامع فرصة التغير والتبديل بل يمنحها بعداً من مخيلته.
- كما أن القصة المكتوبة تحاول التوسط بين المكتوب والشفوي عند سردها من قبل القارئ وهنا يحدث انتصاراً للشفوي مقابل المكتوب... ونجد أن الذات تتنهزه بين العالمين كما يحلو لها من غير الاحتزام بالفوارق بين العمليتين.
إن صياغة الأحداث المكتوبة والشفوية بحاجة إلى مصفاة لتكرير ما تساقط هنا أو هناك، فالحكاية في الحالتين سقط منها شيء لا يستعيده الزمن حتى لو كان (للقارئ أو المستمع) مخيلة فذة، فما تنتجه المخيلة يكون فائضاً ليس من أصل الحكاية.
-هل أستطيع القول إننا حكايات ناقصة؟
لهذا، أشعر فعلاً بنقص الحكاية المكتوبة عما يصاحب الحكاية الشفوية من لوازم ماتعة، والتي اعتبرها من أصل الحكاية وليست طارئة عنها أو عليها.