الديمقراطية البولونية وصعوبة الإقلاع مجدداً
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
منذ خسارة اليمين ـ القومي الشعبوي للأكثرية البرلمانية في انتخابات أكتوبر 2023 والعمل جار على قدم وساق للالتفاف على نتائج الصناديق، وإرجاع بولونيا إلى الهيمنة التي يفرضها عليها هذا اليمين منذ عقدين تقريباً.
فقد نجح &"حزب القانون والعدالة&" الذي يمثّل التشكيل السياسيّ الأساسي لهذا اليمين بتطويع في العمق لأجهزة الدولة ومؤسساتها في السنوات الطويلة الماضية، وهو لا يزال يحتفظ بقدرة واسعة على إرهاق خصومه وإيصاد الأبواب أمامهم، وتأزيم الأوضاع بشكل يؤدي في نهاية المطاف إلى إلغاء مفاعيل التداول الحاصل على السلطة.
يتأتى ذلك من موقع تغلغل &"القانون والعدالة&" وتغوّله في الدولة بشكل ممنهج، واحتفاظه بقوة تعبوية كبيرة في الشارع، وتعاطف مثابر معه ضمن الكنيسة الكاثوليكية والجمهور المرتبط عضوياً بها، لا سيما نظراً لموقفه المحافظ الثابت في قضايا الإجهاض والهويات الجنسية.
وهو مستمرّ في تصدرّ التمثيل البرلماني بكتلة واسعة، رغم خسارته للأكثرية تباعاً في كل من &"الديات&" أو &"السيم&" أي مجلس العموم، وفي مجلس الشيوخ.
في مقابله، تقف حكومة مشكلّة من فريقين، هما التحالف المدني، النيوليبرالي، والمتحمّس للاتحاد الأوروبي ومعاييره وسياساته، و&"الطريق الثالث&" الذي نشأ في الأساس كمحاولة لشق طريق ثالث، من خلفية &"ديمقراطية مسيحية&" تطرح بديلاً خارج ثنائية &"ليبرالي أورو-فيلي&" يقابله &"محافظ شكاك بأوروبا&" فكانت النتيجة أنه دخل في حلف مع طرف بوجه الثاني، إنما ليعكس في الوقت نفسه حدود التفاهم الذي تقوم عليه الحكومة الحالية التي لا يُعرف بوضوح كيف لها أن تفكّك عناصر مكنة اليمين القومي الشعبوي في أجهزة ومؤسسات الدولة.
لئن تصدرت المجر الانعطافة في اتجاه ما أسماه رئيس وزرائها الشعبوي المزمن، فيكتور أوربان، خط &"الديموقراطية اللا &- ليبرالية&" فإن ما صنعه الحزب القومي الشعبوي ببولونيا في السنوات الماضية يبدو أكثر خطورة. فالظاهرة الشعبوية في المجر هي لوجه شعبوي، أوربان، ثم لحزب &"الفيدس&" المرتبط بهذا الشخص. أما &"الحزب&" فهو الذي يحضر في المقام الأول في حال الشعبوية اليمينية البولونية، إلى درجة عاد فيها الحديث، بجدية، عن انبعاث &"الدولة &- الحزب&" على ما كان معمولاً فيه أيام النظام الشيوعي.
وهنا تحضر في بولونيا الإحالات وتتصارع. فالبلد شكّل الحلقة الأضعف في حلف وارسو منذ نهاية السبعينيات، مع صعود احتجاجات نقابة التضامن العمالية، مدعومة من الكنيسة، ومن الكاردينال البولوني كارول فويتيا وقد أصبح بابا الفاتيكان أواخر العام 1978. أدى ذلك إلى تضعضع حكم &"حزب العمال الموحد&" (الشيوعي) إلى درجة الاضطرار، سوفياتياً، لتسليم العسكر مقاليد الأمور، وتولية الجنرال فويتشخ ياروزلسكي. وكانت مفارقة كبرى. البروليتاريا ضد النظام الشيوعي، والسوفيات يستنجدون بوجهها بجنرال يتحدر من عائلة من النبالة البولونية. حيّر ياروزلسكي مع ذلك الناس في تقييمهم له. فهو من ناحية استخدم الرصاص في مواجهة المحتجين، وهو من ناحية ثانية مهّد السبيل لتسليم السلطة للمعارضة وتقويض النظام الشيوعي، وسيسبق كل قيادات أوروبا الشرقية في التبرّؤ من هذه الشيوعية، سيما وأنه آت من الجيش، وليس من الحزب. سيدّعي أنه اضطر لاستخدام القوة لتحاشي مشروع غزو سوفياتي لبلاده، على غرار ما حلّ بالمجر 1956 وتشيكوسلوفاكيا 1968. لاحقاً سيتقلب المزاج في بولونيا ما بعد الشيوعية حياله، ويقلّد أوسمة وتبيّض صفحته جزئياً، قبل أن يُلاحق قضائياً في زمن اليمين الشعبوي القومي، بما بات يسمى ارتكاب &"جريمة الشيوعية&".
منذ خسارة اليمين ـ القومي الشعبوي للأكثرية البرلمانية في انتخابات أكتوبر 2023 والعمل جار على قدم وساق للالتفاف على نتائج الصناديق، وإرجاع بولونيا إلى الهيمنة التي يفرضها عليها هذا اليمين منذ عقدين تقريباً
انتقلت بولونيا من كونها الحلقة الأضعف في &"المنظومة الاشتراكية&" إلى تحولها إلى تدشين مرحلة الانتقال نحو الديمقراطية عام 1989، وكان يبدو أن الأمور ماضية فيها بالتسعينيات نحو نمط معتاد بل رتيب من تداول السلطة بين يمين وسط ويسار وسط، إلى أن أدى أفول اليسار الديمقراطي البولوني منذ انتخابات خريف 2005، إلى انزياح المشهد بالكامل نحو اليمين، ما بين اليمين القومي الشعبوي الشكاك بأوروبا من جهة، واليمين النيوليبرالي الأوروفيلي من جهة أخرى، مع أرجحية للأول.
وشيئاً فشيئاً بات السؤال يفرض نفسه إن باتت بولونيا هي الحلقة الأضعف في منظومة &"الديمقراطيات الليبرالية&". فمقارنة بالمجر الرازحة تحت يمين شعبوي هي الأخرى، بولونيا تفوقها عددياً بأربعة أضعاف، إذ تعد أربعين مليون نسمة. واليمين القومي ـ الشعبوي في بولونيا له دلالة جيوبوليتيكية أخطر. ذلك أنه يجمع في الوقت نفسه بين نزعة شكاكة بالاتحاد الأوروبي، وبين روسوفوبيا شديدة، ويبقى له متسع فوق ذلك للجرمانوفوبيا، وما زال يستحضر بشكل أو بآخر الإحالات الضمنية لمعاداة السامية. بالتالي، يتحول حزب &"القانون والعدالة&" البولوني هذا إلى النادي الذي يستقبل كل من ينتابه احتقان هوياتي في اتجاه ما. فليس من الضرورة أن يكون المرء مهتماً بكل هذه السلبيات والاحتقانات في الوقت نفسه. قدرة هذا الحزب الاستيعابية لكل هذه النزعات في وقت واحد مدهشة. لكن الأخطر منها كيف سيطر على القضاء. الآلاف من القضاة باتوا إما مطواعين له، أو هم أصبحوا قضاة وصعدوا في السلك والهرمية، بفضل توصياته وأدواته.
وعندما عاقبت محكمة العدل الأوروبية مشروع الإصلاح القضائي عام 2019 وبخاصة ما نص عليه من لجنة ضابطة ضمن المحكمة العليا البولونية كان تصميم الحكومة اليمينية الذهاب بعيداً في التصلّب والعنجهية، رغم التغريم المالي، الذي فُرَض عليها والذي رفضت بولونيا أن تسدّد فاتورته للاتحاد، شاجبة ما اعتبرته فساداً ينخر المؤسسات الأوروبية.
اليوم، يتفاعل أخصام اليمين القومي الشعبوي بأنه، وكما كانت بولونيا البادئة في دق إسفين في نعش الشيوعية، فهي كذلك المبادرة الآن للتفلت من الشعبوية وإحياء مسار الديمقراطية الليبرالية والقيم المدنية &- الجمهورية ومنظومة الحقوق والحريات بالشكل الأوسع. لكنه تفاؤل ليس له ما يكفي من رصيد واقعي. فالجمهور اليميني لا يشعر بالإحباط بعد الانتخابات الأخيرة، على ما يظهر، بل يتعامل معها باعتبار أنها بداية أزمة، وأن المؤسسات لم تعد لوحدها الإطار الأوحد لمعالجة هكذا نوع من الأزمات. كذلك يعتمد هذا اليمين على حصيلة ما حققه في السنوات الماضية من تقريب جهاز الدولة اليه. لا تزال الديمقراطية البولونية التي تراجع منسوبها بشكل محموم منذ عقدين، أمام اختبارات عسيرة. التداول على السلطة ليس بالمقولة الوحيدة التي يمكن من خلالها استيعاب مسار الحياة السياسية في هذا البلد. مثلما أن مبالغة البولونيين في تصوير الانحياز الديمقراطي لأمتهم، مقارنة بالتجربتين الروسية &- السوفياتية، والألمانية، فيه إغفال إلى أن بولونيا أيضاً، حين ظهرت مجددا على مسرح الأمم المستقلة بعد الحرب العالمية الأولى، لم يطل بها العهد حتى انتصرت فيها السلطوية، مع انقلاب الماريشال بيلسودسكي عام 1926 وإرساء ما سمي حينذاك نظام &"سناسيا&" أو &"التعافي&" مع خلفية أخلاقوية محافظة ومتزمتة لهذه المفردة في حينه. لقد سبق انهيار التحول نحو التعددية الدستورية ببولونيا العشرينيات، والاستعاضة عنه بحكم سلطوي، انهيار الديمقراطية في ألمانيا المجاورة عام 1933. وإلى اليوم، ما زال الحنين إلى عهد بيلسودسكي قوياً في بولونيا، وتحديداً في معسكر اليمين القومي الشعبوي.