جريدة الجرائد

بايدن و"اللّحظة الأوباميّة": عندما يتحكّم الخوف من الحروب ويتقدّم الهروب إلى الأمام كاستراتيجيّة

جنود أميركيون يقومون بدورية في منطقة في بلدة تل حميس جنوب شرق مدينة القامشلي في محافظة الحسكة شمال شرقي سوريا، في 24 كانون الثاني (يناير) 2024
قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

استثمار إدارة الرئيس جو بايدن في التوصل إلى وقف نارٍ موقت وإنساني في غزة له بُعد على الصعيد الداخلي عنوانه المعركة الانتخابية، ومن يملك المفاتيح إلى البيت الأبيض، وهنا تبرز ولاية ميشيغان وأهمية الصوت العربي فيها بالرغم من حجمه الصغير. أما على الصعيد الاستراتيجي، فإن الاستثمار في الترتيبات الانتقالية يرافقه العمل الدؤوب على تفاهم أميركي - إيراني وتنسيق أميركي - عربي تأمل إدارة بايدن أن يؤدّيا إلى تلك التسوية الكبرى في الشرق الأوسط.

الرئيس السابق دونالد ترامب يراهن على فشل جو بايدن في استرجاع الصوت العربي في ميشيغان، وبالتالي يُفتح باب البيت الأبيض لعودته إليه، وهو يتوقع الفشل لتلك الصفقة الكبرى لأن قوامها هو استرضاء إيران بدلاً من أسلوب فرض الصفقة الذي يؤمن به ترامب وسيلة لحل النزاعات. الأسابيع القليلة المقبلة مهمّة جداً للرئيسين بايدن وترامب، إذ إن مسألة وقف النار في غزة ستكون محورية لحملتي المرشحين، كما للعلاقة الأميركية - الإيرانية بتشعباتها، ولجبهات الحرب والسلم لإسرائيل، لا سيّما الجبهة اللبنانية.

قد يبدو ساذجاً القول إن ولاية ميشيغان هي الباب الرئيسي إلى البيت الأبيض، وإن الصوت العربي في ميشيغان هو مفتاح الباب. لكن في الحقيقة، هذا واقعٌ استجدّ بعدما بات واضحاً أن الرئيس الحالي الديموقراطي جو بايدن خسر قاعدته الشعبية التقليدية بين العرب والمسلمين في تلك الولاية بسبب حرب غزة، وكثير منهم من اليمن ومن لبنان.

حملة "تخلّوا عن بايدن" لا يهمها ماذا تقوم به إدارة بايدن نحو الحوثيين حماية للملاحة الدولية، أو نحو "حزب الله" العراقي في سوريا رداً على استهداف جنود أميركيين، أو ما تبذله من جهود مع إيران لاحتواء توسّع الحرب في غزة إلى حرب إقليمية. ما يهمّ القائمين على الحملة ومن يدعمهم هو كيف تصرّف الرئيس جو بايدن منذ أن توجّه إلى إسرائيل واحتضن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، مروراً بإغداقه بالأسلحة على إسرائيل التي فتكت بالفلسطينيين، وانتهاءً برفضه الموافقة على الدعوة إلى وقف النار.

في رأيهم، أن ما ارتكبه بايدن من أخطاء شملت قوله مثلاً إن "حماس" قطعت رؤوس الأطفال من دون أن تكون لديه أدلّة، والخطأ الأساسي هو ازدراؤه بالأرواح الفلسطينية التي تحصدها الأسلحة الأميركية في إطار سياسة إبادية تقوم بها حكومة إسرائيلية متطرفة وعنصرية. رأيهم أن حجم الانتقام الإسرائيلي من عمليات 7 تشرين الأول (أكتوبر) ونوعيته مهما انطوت على عمليات إرهابية ضد المدنيين، يفوق بأضعاف ما قامت به "حماس". هم يرون أن اكتفاء إدارة بايدن بدعوة إسرائيل إلى التلطّف بالفلسطينيين وهي تشرّدهم قسراً وتدمّر بيوتهم وتسحق أطفالهم، إنما هي سياسة ازدواجية تفتقد البيكار الأخلاقي الذي يزعم الديموقراطيون أنهم يقتدون به.

نقمة الجالية العربية في ميشيغان على بايدن تأتي في خضمّ حاجته إلى أصواتها الانتخابية التي ساهمت في وصوله إلى البيت الأبيض عام 2020، وهذه موسيقى في أذن ترامب الذي يحمل شعاراً أساسياً هو: إن الحرب ما كانت لتقع لو كان ترامب رئيساً. أما الرسالة السياسية لفريق ترامب لجهة إيجاد الحلول فهي أن ترامب هو الرجل الذي يجد الحلول لأنه يحسن استعمال أدوات الفرض بدلاً من الغرق في الاستشارة والترضية والتفاهمات المارقة. ترامب رجل السلم، يقول فريق حملته، وبايدن رجل الحروب، كما أثبتت ولايته.

جاريد كوشنر، صهر الرئيس ترامب، ما زال المكلف الرئيسي بملفات الشرق الأوسط، السياسية والاقتصادية، وهو واثق بأن في وسعه توسيع الاتفاقيات الإبراهيمية التي أسفرت عن التطبيع بين إسرائيل ودول عربية عدة وتوطيدها. لدى كوشنر خطّة للنزاع الفلسطيني - الإسرائيلي وللعلاقات العربية - الإسرائيلية. لديه تصوّر لكيفية التعاطي مع إيران وأذرعها لا تنطوي على حرب أميركية على إيران، بل على إجراءات أميركية نحو إيران وأذرعها أينما كان.

ترامب يكره الحروب. حتى لو ورثها، لدى ترامب خطط ومشاريع صفقات لإنهائها. هي ذي رسالة فريق ترامب الذي لا يمانع أن تقوم إدارة بايدن بأي شيء يوسِّع حلقة توريطها، أو، بأي ما يؤدي إلى نجاحات تفيد ترامب في نهاية المطاف.

وبحسب مصدر مقرّب جداً من الرئيس السابق، أن فريق ترامب لا يمانع ولا يعترض على أي نجاح يحققه فريق بايدن لجهة المزيد من التطبيع بين إسرائيل ودول عربية. عكس المتوقع، يؤكد المصدر أن التطبيع بين السعودية وإسرائيل، إذا حدث على أيدي إدارة بايدن، فإنه لا يسترق الهدية الأكبر - البونانزا - من إنجاز الاتفاقيات الإبراهيمية، بل يبدو مكمّلاً لها. فهي علامة ترامبية مميزة.

ترامب لا يخفي استعداده للصفقات الصعبة، فلديه خريطة طريق للخروج من حرب أوكرانيا قد تثير حفيظة أميركيين وغضب الدول الأوروبية في حلف شمال الأطلسي (ناتو)، وبالتأكيد ستُعتبر تخلّياً عن أوكرانيا الراغبة بالانضمام إلى الحلف. براغماتية ترامب تؤهله لتقديم صفقة إلى روسيا لإيقاف حربها على أوكرانيا مقابل العودة عن وعد إدخال أوكرانيا عضواً في حلف الناتو. هذه ليست خيانة، في نظر فريق ترامب، بل هي حلول عملية تنهي الحروب. وترامب يكره الحروب، هذا شعار مهم جداً في حملته الانتخابية.

قد يكون شعار حملة بايدن أن هذا رئيس استطاع احتواء الحروب ومنع توسّعها، وتمكّن من إبقاء الولايات المتحدة خارج استدراجها إليها. حرب غزة مثال، إذ استطاعت إدارة بايدن ردع إيران من جهة، والتفاهم معها على لجم "حزب الله" في لبنان من جهة أخرى لمنع الانزلاق إلى حرب إقليمية، كما تمكّنت من مقاومة الشهيّة الإسرائيلية لتوريط الولايات المتحدة في حرب مباشرة مع إيران.

مأزق إدارة بايدن اليوم أنها تبدو ضعيفة غير قادرة لا على منع الاعتداءات المباشرة على القواعد والمصالح الأميركية، ولا على وقف النزيف في غزة والتوصل إلى أكثر من هدن إنسانية موقتة وعابرة. وحتى الآن، لم تفلح في إيجاد تلك الصفقة الكبرى والتسوية الدائمة التي تسعى وراءها.

الرئيس بايدن مرّ، أو يمرّ، في ما قد يمكن تسميته "اللحظة الأوبامية" the obama moment إشارة إلى قرار الرئيس الديموقراطي الأسبق باراك أوباما في الساعة الحادية عشرة ألّا يضرب سوريا بعدما كان جاهزاً وأصدر أوامر الجاهزية لتوجيه الضربة لوقف سوريا عن برامجها للسلاح الكيماوي المحظور. استخدم أوباما عام 2012 تعبير "الخط الأحمر" الذي تراجع عنه. بايدن حريص على تجنب التعابير التصعيدية، وبالتالي لا أوجه شبه هناك. الشبه هو في التردد والضعف وفي الانطباع بأن الرئيس الديموقراطي الحالي تلقى ضربات ضد جنوده من أذرعٍ واضحة الانتماء لإيران، ولم يتحرك بالسرعة الضرورية لإبلاغ الأذرع والجسم الإيراني بأن هذه هي الولايات المتحدة الأميركية التي لا تتساهل مع استهداف جنودها وقواعدها، بل بدا متقبلاً للمزاعم الإيرانية بأن لا علاقة لها بالعمليات التي تقوم بها أذرعها، فنجحت المسكنة. نجحت لأن بايدن كتب لها أن تنجح.

آخر تلك العمليات وقع على قاعدة في شمال شرقي الأردن (البرج 22) وأدّت إلى مقتل 3 جنود أميركيين وإصابة أكثر من 40 جندياً. الفصائل العراقية التابعة لإيران التي تبنّت هذا الهجوم اتخذت خطوة صغيرة إلى الوراء، ربما بضغوط من الحكومة الإيرانية أو الحكومة العراقية أو الاثنتين معاً نجحت في دفع "حزب الله" العراقي إلى الإعلان عن الوقف "الموقت" لحملاته العسكرية ضد المواقع والقواعد الأميركية في العراق وفي سوريا وأينما كان.

استراتيجية بايدن للرد في هجمات تدريجية على مدى أيام في العراق وسوريا على أهداف تابعة لأذرع إيران، تشمل منشآت وعسكريين إيرانيين، قد تكون استراتيجية واعية، لأنها تتجنب المواجهة المباشرة مع إيران في حرب لا تريدها أميركا. إلّا أنها ليست استراتيجية حازمة ولا تنطوي على رسالة مفادها أن هذه دولة عظمى ممنوع على المصدر أو الأذرع الإيرانية التعدّي المباشر عليها. إنها استراتيجية ضعف واسترضاء لإيران، والمشكلة أن طهران تعرف ذلك وتستخدمه في استراتيجية المناورة أو المبارزة السياسية مع إدارة بايدن التي تعتمدها بدهاء استراتيجي فارسي بامتياز.

إيران لا تريد الحرب مع الولايات المتحدة ولا مع إسرائيل. تريد الوقت لاستكمال مشاريعها النووية، ولتجنب المزيد من الضغوط الاقتصادية الداخلية. وهي، يقول البعض، تجد في تهدئة الشرق الأوسط فرصة لها للتركيز على الدول المعروفة بـ"ستان" - كازاخستان وكيرغستان وطاجيكستان وتركمنستان وأوزبكستان، وأفغانستان، وباكستان - بما فيها من موارد وفوائد لإيران.

لذلك تريد طهران أن تتعاون مع إدارة بايدن لإيجاد الحلول ومفاتيح الصفقة الكبرى. ولذلك أعادت إلى الواجهة وزير خارجيتها السابق محمد جواد ظريف صاحب "دبلوماسية الابتسامة العريضة" الذي يحسن التواصل مع الأميركيين والأوروبيين والإسرائيليين أيضاً، وإن كان ليس بصورة مباشرة.

إدارة بايدن أيضاً لا تريد التورط في حرب مع إيران، ولذلك هي على تواصل مع طهران لتجنب ارتكاب الأخطاء والانزلاق إلى مغامرات غير محسوبة قد تأتي بها حرب غزة. يدرك فريق بايدن أن إيران تختبئ وراء أذرعها proxies في سياسة مدروسة تجعلها قادرة على أن تزعم أنها لم تقم بالعمليات وأن تتملّص من إلقاء اللوم عليها. الاثنان يخشيان عواقب المواجهة المباشرة، وكلاهما جعل من الخوف من الحرب بينهما أساساً لسياساته الحالية.

إحدى المحطات المهمّة في هذا التقاطع هي لبنان حيث الورقة الثمينة لدى إيران، "حزب الله"، وحيث يكمن أحد مفاتيح التسوية الكبرى، إذا نجحت جهود وقف النار في غزة. تفيد المعلومات بأن وزير الخارجية الإيراني أبلغ المعنيين أن طهران تريد حلاً نهائياً لمعضلة الجنوب، وأنها لا تمانع الرعاية الأميركية لترسيم الحدود البرية بين لبنان وإسرائيل.

المصادر المطّلِعة على هذا الملف عن كثب تقول إن الإقرار الأميركي بمركزية إيران ومحوريتها كلاعب أساسي في المنطقة وضع إيران ضمن الصفقة الكبرى، لا خارجها كما يقول البعض. وتضيف، أن ترسيم الحدود يسحب نقاط الخلاف بين لبنان وإسرائيل وسيؤدّي إلى حوار وطني وتبني استراتيجية دفاعية لا يكون فيها مبرر لسلاح "حزب الله".

قد تكون هذه تمنيات، لكن الأقطاب السياسيين والحكومة اللبنانية سلّموا آموس هوكشتاين ملف التفاوض بين لبنان وإسرائيل، ومصادرهم تقول إن خطة هوكشتاين ستبصر النور فور وقف النار في غزة. قوام الخطة تطبيق القرار 1701 وتجهيز الجيش اللبناني للانتشار في الجنوب، فيما يتم تحديد الوقت لإعادة التفاوض الثلاثي بين لبنان وإسرائيل والأمم المتحدة في ما يخصّ إزالة نقاط الاختلاف على الخط الأزرق الذي يفصل لبنان عن إسرائيل، وفيما يتم البحث في حل دبلوماسي لمعضلة شبعا وكفرشوبا، يشمل بالضرورة سوريا لأن هذه الأراضي اللبنانية تقع داخل ولاية الأمم المتحدة لفك الاشتباك، أندوف، بين إسرائيل وسوريا. كل هذا يتطلب موافقة إيران ومباركتها.

كلمة أخيرة تستحق العودة إليها في مقالات لاحقة لها علاقة بمقالة الزميل العزيز توماس فريدمان في "نيويورك تايمز"، يتحدّث فيها عما أسماه "عقيدة بايدن"Biden Doctrine ذات المسارات الثلاثة، كما يتصورها أو يتمناها الصديق فريدمان. أبرز الثقوب في أطروحات العقيدة المفترضة هو غياب إيران عن الحلول الدبلوماسية أو الأدوار التخريبية، والاكتفاء بمجرد الاعتراف الأميركي بالدولة الفلسطينية المجرّدة من السلاح التي يرتبط قيامها بأداءٍ فلسطيني يضمن أمن إسرائيل. الكلام عن تحالفٍ أمني أميركي - سعودي مهم وقابل للتطبيق، إنما حصره بشروط التطبيع السعودي - الإسرائيلي المرتبط برضا إسرائيل على مبدأ قيام دولة فلسطينية مجرّدة من السلاح يتطلب شرحاً مقنعاً أكثر.
أما الآن، فإن الأنظار على مأساة غزة ومأزقها وعلى ماذا ستفعل إدارة بايدن بيوميات علاقاتها وتحدياتها الإيرانية.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف