«الأونروا» وتدمير التاريخ
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
بغض النظر عن اتهامات إسرائيل لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين التابعة للأمم المتحدة (الأونروا) بأن بعض العاملين فيها ينتمون إلى فصيل فلسطيني معين، فإن استهداف تلك المنظمة الدولية ليس وليد اليوم ولا بسبب الحرب الحالية على قطاع غزة. إنما ذلك جهد إسرائيلي لا يكلّ ولا يملّ ربما منذ إنشائها بقرار من الجمعية العامة للمنظمة الدولية عقب نكبة 1948.
زادت تلك المحاولات لإنهاء &"الأونروا&" مطلع السبعينات وبنهايتها مع بدء أول مفاوضات بين إسرائيل ودولة عربية هي مصر حيث أثير موضوع اللاجئين الفلسطينيين في المحادثات التي أدت إلى معاهدة كامب ديفيد. ومنذ ذلك الحين تسعى إسرائيل، وأحياناً بمساعدة مؤيديها في الغرب، للنيل من الوكالة بتقليص المساعدات لها أو باتهامات بعضها مجرد افتراء وتلفيق، للقضاء على &"الأونروا&" كخطوة مهمة بالنسبة لها للقضاء على مشكلة اللاجئين الفلسطينيين كي لا تذكر في أي مفاوضات بينها وبين العرب بعد ذلك.
صحيح أن إسرائيل لا تعبأ بالقانون الدولي كثيراً، ولا بقرارات الأمم المتحدة، إلا أن وجود هذا &"السجل&" الذي يوثق تاريخ وحياة الملايين من الفلسطينيين ربما يشكل إحراجاً لداعميها مثل الولايات المتحدة. ولعل &"الأونروا&" هي السند الدولي الأكثر توثيقاً لتاريخ الفلسطينيين الذين هُجروا من بلداتهم وقراهم واستولى المستوطنون على بيوتهم وأراضيهم منذ إنشاء دولة إسرائيل.
كان إنشاء وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى (الأونروا) بقرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة في نهاية عام 1949. ثم بدأت الوكالة عملها في عام 1950 لتصبح واحدة من أكبر برامج الأمم المتحدة للمساعدات الإنسانية منذ ذلك الحين. كان إنشاؤها اعترافاً من العالم بأن إقامة دولة يهودية في فلسطين عام 1948 جاء على حساب تهجير وتشريد شعب فلسطين، وبالتالي على العالم الذي قبل بإنشاء الدولة اليهودية أن يتحمل جزءاً من المسؤولية الإنسانية عن الشعب الأصلي.
ومع أن بعض قرارات الأمم المتحدة بشأن إسرائيل وفلسطين تم التراجع عنها، إلا أن &"الأونروا&" ظلت مستمرة حتى اليوم. مثال على ذلك قرار الأمم المتحدة رقم 3379 لعام 1975 الذي نص على أن الصهيونية حركة عنصرية ثم مع ضغط أمريكي/بريطاني ألغي القرار في عام 1991. ومنذ النصف الثاني من سبعينات القرن الماضي لم تتوقف المحاولات لتعطيل عمل &"الأونروا&" بهدف إنهاء الوكالة التي لا يقتصر عملها على تقديم المعونات الغذائية للاجئين الفلسطينيين في الضفة وغزة وفي لبنان والأردن وغيرها، إنما هي أيضاً توفر التعليم للاجئين عبر مدارس الوكالة والرعاية الصحية وتساعدهم على إيجاد فرص للعمل بعدما فقدوا مقومات المعيشة.
ومع تصاعد الدعوات الإسرائيلية لتهجير الفلسطينيين خارج قطاع غزة، بدا واضحاً أن هناك نية للوصول إلى حل نهائي لما يعتبر مشكلة الفلسطينيين. وكي يتم ذلك بشكل حاسم هناك حاجة للتخلص من كل ما يثبت أن هناك احتلالاً في الضفة وغزة. وإحدى العقبات القانونية أمام تزوير التاريخ وطمس الحقائق وإلغاء قضية شعب ووطن بالكامل هي وكالة دولية مثل &"الأونروا&". فسجلات الوكالة هي &"حجة الأرض&" وسند ملكية الفلسطينيين لأرضهم وبيوتهم التي اغتصبها المستوطنون. ولا أحد يريد هذا الصداع القانوني كي لا يفسد الحلول والتسويات النهائية. فطالما ظل هذا السجل القانوني موجوداً، يمكن للمفاوضين أن يطرحوا قضية اللاجئين.
هذا السلوك تاريخياً لا يقتصر على إسرائيل مع الفلسطينيين، بل هو ما حدث في كثير من المناطق وانتهى بدول بعضها الآن أعظم قوة في العالم. فهذا ما فعله المستوطنون الأوروبيون الذين احتلوا أمريكا الشمالية وأستراليا ونيوزيلندا قبل بضعة قرون بأن قضوا على كل سند قانوني يدعم حق السكان الأصليين، مثل الهنود الحمر والأبورجين وغيرهم، في بلادهم التي غزاها واحتلها مغامرون أخرجتهم أوروبا من سجونها ودفعت بهم إلى مستعمرات العالم الجديد.
لا عجب إذاً أن تجد الولايات المتحدة وكندا، ودول أوروبا الرئيسية التي ينتمي إليها الكنديون والأمريكيون المستوطنون لشمال أمريكا على حساب السكان الأصليين هي أول من سارع بتعليق المساهمات في &"الأونروا&" استجابة لمزاعم الاحتلال تجاه بعض موظفيها. فبغض النظر عن الاتهامات التي قالت الأمم المتحدة إنها ستحقق فيها، فإن الولايات المتحدة وحليفتها الأوروبية الأولى بريطانيا وجدتا فرصة للنيل من الوكالة الدولية التي لم يفلحوا على مدى عقود من إلغائها كما فعلوا مع قرارات أخرى.
إلا أن هناك عدة عوامل قد تجعل حظ &"الأونروا&" في البقاء أفضل نسبياً، منها أن عملها الإنساني بالأساس يجعل من الصعب على كثيرين حول العالم، بما فيهم بعض أصدقاء إسرائيل، أن يوافقوا على إنهاء الوكالة. ثم إن الأوضاع العالمية الآن ليست كما كانت مطلع تسعينات القرن الماضي، ففي ذلك الوقت كان هناك توجه نحو بناء عملية سلام تنتهي بتسوية سياسية لكل مشاكل المنطقة وقبول إسرائيل فيها بشكل طبيعي مقابل بعض حقوق الفلسطينيين.
أما الآن، ورغم الحديث والتصريحات حول تسوية شاملة، فالأوضاع ساخنة جداً، خاصة أن حرب غزة توقع ضحايا بالآلاف ومستمرة في التدمير. وحتى علو صوت الأمم المتحدة محذرة من الكارثة الإنسانية في غزة من الصعب أن يبرر معاقبتها بإلغاء وكالة الأونروا.