أمريكا «الحائرة» المحيّرة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
معظم الأزمات العالمية جعلت العالم، عالميْن، بما في ذلك الحربان العالميتان الأولى والثانية، ولكن الحرب الإسرائيلية على غزة قسّمته إلى 3 فرق غير متكافئة لا في الحجم ولا في القوة والتأثير، إسرائيل تمثل وحدها فريقاً، يقتل ويهدد ويتوعد كثيراً، يرى قليلاً، يفتح عينيه على ما يريد رؤيته ويغلق عقله أمام ما لا يريد استيعابه، لا يسمع أبداً ولا يكترث بما يقوله العالم ولا بما تطالب به الحكومات ولا بما تثور وتتظاهر لأجله الشعوب.
الفريق الثاني يمثل أغلبية العالم، يحذر ليل نهار من عواقب استمرار الحرب، يرى ما ترتكبه القوات الإسرائيلية في قطاع غزة من إبادة جماعية وتطهير عرقي وجرائم ضد الإنسانية؛ وبين هذين الفريقين يقف الفريق الثالث حائراً ومحيّراً، يقول ما لا يفعل ويفعل ما لا يقول، تمثله الولايات المتحدة وقليل من حلفائها الأوروبيين الذين يخشون الخروج من تحت عباءتها ومن التجرؤ على إسرائيل، يرددون ما يقوله سيد البيت الأبيض وإدارته، يغيّرون في المصطلحات ويلتزمون بالمضمون، ليس لديهم أية نوايا للخروج على النص الأمريكي الإسرائيلي. في السابع من أكتوبر الماضي كان الوضع مختلفاً.
بعض دول العالم دانت هجوم حماس وأيّدت &"حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها&" ولكنه الحق الذي تحوّل إلى باطل بعد أن تجاوز المعقول، وانتهج طريق الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني، واستهدف التطهير العرقي للأرض من أهلها، وارتكب من الجرائم في حق المدنيين من الأطفال والنساء والشيوخ ما أثار الغضب عالمياً، وحرّك الجماهير في الكثير من الدول تنديداً بالحرب، وللشهر الخامس تواصل إسرائيل حربها الظالمة، والتي لم تعد حرباً على غزة فقط ولكنها أصبحت حرباً على كل مدافع عن حق الشعب الفلسطيني، وكل متصدٍ لمحاولات التهجير القسري لأهل غزة، وكل رافض للاستخدام المفرط للقوة ضد المدنيين، وكل مطالب برفع الحصار وإدخال المساعدات، وكل منتقد للخطاب الإسرائيلي المتطرف، يتساوى في ذلك لو كان رئيس دولة أو زعيماً سياسياً أو شخصية عامة أو مسؤولاً أممياً، وأمام ذلك كان من الطبيعي أن تتبدل مواقف دول وتنتقل من الدفاع عن إسرائيل إلى الدفاع عن الحق الفلسطيني، ليزداد عدد الدول المنضمة للفريق الرافض للحرب والمدرك أنها تجاوزت المدى ظلماً وعبثية، ويتضاءل الفريق التائه بين التزامه الانحياز الأعمى لإسرائيل وبين يقينه أنها حرب تهدد الاستقرار العالمي.
كثير من الدول تمردت على الموقف الأمريكي، وأمريكا نفسها توحي للعالم أنها تريد أن تتمرد على التزاماتها تجاه إسرائيل التي أصبحت مثل الثور الهائج الذي يضرب في كل الاتجاهات ويتجاوز كل القوانين الدولية والإنسانية، ولكن واشنطن تعجز عن فعل قناعاتها، فهي اليوم تقف في منطقة ضبابية الرؤى، تصدر للعالم صورة الدولة الحائرة، ولكن الحقيقة أنها المحيّرة بين ما تراه صحيحاً وما تفرضه عليها إسرائيل، بعد أن انقلب الوضع وفلت زمام إسرائيل وخرجت عن السيطرة الأمريكية والعالمية، وهو ما فضح ازدواجية أمريكا التي تطالب بإدخال المساعدات من دون شروط وتتلقى وعوداً من الحكومة الإسرائيلية بذلك ولكن بلا تنفيذ، تتوافق مع الوسيطين المصري والقطري وبوجود إسرائيلي على هدن تبادل أسرى ووقف إطلاق النار ولكن عندما يعرض المفاوضون الإسرائيليون الأمر على نتنياهو يرفض، تتوقف المفاوضات وتعود مراراً من دون قرار.
بايدن وبلينكن وغيرهما يعلنون رفضهم اقتحام رفح ثم يعودون ويرضخون للضغط الإسرائيلي ويهادنون ويوافقون شريطة حماية المدنيين، فضلاً عن الخلافات الإسرائيلية الأمريكية بشأن إقامة الدولة الفلسطينية وبشأن اليوم التالي للحرب وحماية المدنيين، وتفاصيل كثيرة تؤكد أن أمريكا أصبحت عاجزة عن لجم جموح نتنياهو والحد من شره اليمين الإسرائيلي المتطرف.
شظايا الصواريخ الأمريكية التي قتلت عشرات الآلاف من الأطفال والنساء الفلسطينيين وعجزت عن الاقتراب من قادة حماس، لا تختلف عنها شظايا التصريحات الإسرائيلية التي أصابت حلفاء وأصدقاء، وحاولت أن تقتل منظمات أممية وأن تلقي التهم جزافاً على دول تبذل كل ما تستطيع حتى لا تتوسع الحرب، وأن تنال من زعماء لأنهم قالوا &"كفى قتلاً وتخريباً وتدميراً&"، وخلقت أزمات دبلوماسية بين إسرائيل ودول عدة لن تكون آخرها البرازيل.
كما لم تنجُ الإدارة الأمريكية من شظايا تصريحات وزراء متطرفين في الحكومة الإسرائيلية، فضلاً عن الصورة التي ظهر بها سيد البيت الأبيض وفريقه وهو يصرح اليوم بعكس ما طالب به بالأمس، ليبدو أمام الرأي العام الأمريكي والعالمي مهزوزاً لا تليق به قيادة العالم، وزاد من ذلك التناقض الصارخ بين أقواله وأفعاله، مطالباته ومساعيه ووساطته، وفي ذات الوقت تزويده إسرائيل بكل ما تطلبه وما لا تطلبه من أسلحة لتواصل بها قتل الفلسطينيين، وكأنه لم يكفه إحباطه لأي قرار في مجلس الأمن لوقف الحرب باستخدامه المتواصل ل&"الفيتو&" الذي أفقد مجلس الأمن سلطته وجعله عاجزاً عن حماية الأمن العالمي.
الموقف الأمريكي محيّر لأي متابع، نموذج فاضح للعجز الأمريكي أمام التعنت الإسرائيلي، كاشف عن أن أمريكا أصبحت مهزوزة القرار، ضبابية الرؤية تجاه ما يحدث في غزة وفي غير غزة.