لم أصلْ إلى نهاية الهجرة إلى الشمال
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
يلومني زميل في العمل، وهو شاعر أصدر أكثر من مجموعة شعرية، بأنني أجازف وأقرأ كل كتاب أحصل عليه! وهو في ذلك يغالي في نزق القراءة عند الشاعر، من دون أن يدرك أن على الصحافي أن يقرأ حتى الكتاب السيء من أجل بناء المعلومة بشأنه. لقد مرت علينا جميعاً كتبٌ نقرأها على مضض، مع ذلك نستمر بقراءتها.
هو محق أيضا عندما نعيش كراهية القراءة، ذلك ما ينبغي على الصحافي الصبر عليه كي يعرف طريقة تفكير الآخر، لا أن يرمي الكتاب من نافذة سيارته غير مأسوف عليه كما كان يفعل روائي عراقي وهو يصنف الكتب وفق مزاجه الشعري.
أقسى أنواع الصبر تكمن في احتراف القراءة بحثا عن الأفكار العظمية واكتشاف قيمتها في المرور عبر الأفكار المكررة والمزعجة والفارغة والمتغطرسة في الكتابة.
تعطينا نانسي بيرل، أمينة مكتبة أميركية ومؤلفة الكتب الأكثر مبيعا، شيئا من تجربتها في القراءة الغزيرة في متن صفحات كتابها "شهوة الكتاب: دليل القراءة الجيدة" ما يشبه الإجابة عن قلق القراءة عندما لا نستمتع بالكتاب، كما يمكن أن نشعر بالذنب بعد فترة من التخلي عنه.
تقول "أعط الكتاب خمسين صفحة من القراءة وأن لم تجد ما يهمك انتقل إلى الصفحة الأخيرة، ثم توقف عن القراءة".
أما عندما تبلغ الصفحة مائة، فيمكنك بشكل شرعي أن تحكم على الكتاب من غلافه، وفق هذه السيدة محترفة القراءة، مع أنها تعتقد مثل غيرها من الكتّاب بأن التوقف عن القراءة بمثابة جريمة ضد المؤلف، بيد أن التخلي عن الكتاب هو قرار قابل للتراجع.
يمكن لبعض الأشخاص أن يدركوا من خلال بضع صفحات ما إذا كان الكتاب سيكون حارساً أم لا. فكيف إذا سمعنا بكتاب عظيم لم نقرأه بعد. نعم هناك بعض الكتب تجعلنا متوترين أو يائسين، وكتب أخرى ترغمنا على ذرف الدموع وبعضها يحولنا إلى لصوص كلمات وأفكار، فحتى الكتاب الذي يرسلنا إلى دوامة منفصلة يستحق أن نقرأه.
الكتب تسحرنا، وهي قادرة مع تغير عادات القراءة والشغف بها، ألا تجعلنا متطرفين حيال الكتاب الورقي برفض الكتاب الرقمي بشكل مطلق، عندما تكون الحاجة المعرفية ماسة للكتاب ونحصل على نسخة منه ورقية كانت أم رقمية.
في رحلة على مدار ساعات في الطائرة كنت سعيداً بكمبيوتري الذي حمّلت عليه عشرات الكتب وأنا أقرأ بنهم وليس على مضض، لقتل وقت الرحلة الطويل، بينما حاول المسافر جواري فتح حوار مجاملات وتعارف معي ليوصل لي في النهاية عبارة “إن الحياة أقصر من أن نقضيها بالقراءة”! هذا الكلام بمثابة معادل لا موضوعي لنزق الشاعر الذي ورد في أول المقال.
وفي رحلة بالسيارة بين مدينتي طرابلس ومصراته قبل ربع قرن، كان مجاوري في المقعد يتصفح رواية الطيب صالح الشهيرة "موسم الهجرة إلى الشمال" في طبعة أنيقة للغاية، من دون أن تبدو عليه حاجة القراءة، فكنت أدعو السماء أن ينتهي تصفحه قبل أن نصل إلى نهاية الطريق كي أستأذن منه في مطالعة الرواية، وبالفعل منحني الكتاب، بينما لم يبق من طريق الوصول غير عشرات الكيلومترات، وكنت أود أن أنهي قراءة الرواية قبل نهاية الطريق، فلم أرفع رأسي عن الكتاب طوال ما تبقى لي من مسافة الرحلة، في قراءة سريعة لم أشهدها طوال عمري، كنت أسابق فيها سرعة المركبة، غير أنه من سوء حظي آنذاك، وصلنا من دون أصل إلى نهاية موسم الهجرة إلى الشمال!
كان ذلك قبل ربع قرن، لكن الاطمئنان يكمن اليوم عندما يكون الكتاب متاحاً وبيسر ولا تضطر إلى أن تسابق الوقت في قراءته.