غزة وحربها الكاشفة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
من أيام غزة الأخيرة، تعلمت الكثير. تعلمت الكثير عن شعبها وعن شعوب أخرى. كشفت لنا، وسوف تكشف لأجيال عديدة من بعدنا، حقيقة سكان إسرائيل. عبّرت لي من جديد، وبالوضوح الشديد، وبكل الصخب الممكن، والعنف المتوحش، عن نوايا إسرائيل، بل وعن أصله وفصله وعن أشباهه وفروعه ومشتقاته.
أعادت لي نتفاً من ذاكرتي، كادت تضيع وتختفي، عدت أتذكر ما صنعته وخلفته ألمانيا من خلال دورها كدولة استعمار حين تفننت في تعذيب وإبادة شعب إفريقي يسكن إقليماً في أقصى جنوب غرب القارة السمراء، ثم أتذكر ما فعله المهاجرون البيض من أوروبا، وبخاصة إنجلترا، بالشعوب الأصلية في القارتين الأمريكتين. علمتني عن تاريخ اليابان وكفاح الشعوب ما لم أكن أعلم. لم أكن أعلم مثلاً أن المقاومة المسلحة على طريقة الانتحار الجماعي في وجه المحتل، أي الكاميكازي، تعني في اللغة اليابانية &"الريح المقدسة&"، في إشارة إلى كفاح اليابانيين للتصدي للغزو المغولي القادم من القارة نحوها وعبر البحر في القرن الثالث عشر الميلادي.
نعم، عرفت أكثر مما كنت أعرف، وتعلمت ما لم أكن أعلم، وهو بين كثير مما كشف عنه حتى الآن كفاح يشنه فلسطينيون في مواجهة عملية إبادة تدعمها وتشترك في تنفيذها قوى عظمى. أكثر هذه القوى العظمى لا تنفذ ما وعدت به مقابل الاعتراف بها قوى عظمى. كانت جميعها موضع اختبار خلال أزمة غزة. اثنتان، وهما الولايات المتحدة وبريطانيا.
هاتان القوتان، سواء تحدثنا عن مراحل صعودهما أو مرحلة انحدارهما، استمرت تلاحقهما العنصرية ونتائج تصرفاتهما المتناقضة، مع التزامهما احترام قواعد عمل النظام الدولي القائم ومؤسساته الحقوقية والتنموية والسياسية.
لا تزال أزمة غزة تثمر أوضاعاً جديدة، وتفرض سلوكيات بعينها، ليس فقط على الشرق الأوسط، ولكن أيضاً على أقاليم أخرى، ومنها أوروبا وأمريكا اللاتينية. من هذه السلوكيات ما يمس نظام ومؤسسات القمة الدولية. أحاول في السطور القليلة التالية عرض نماذج من هذه الأوضاع والسلوكيات.
*أولاً: خلصنا من متابعة مضنية لسياسة أمريكا الخارجية في هذه الظروف الصعبة، إلى تقرير أنها سياسة أصابها الارتباك الشديد. قلت في مناسبة قريبة إن أفضل تجسيد أو تصوير لها هو فيديوهات صحفية تتابع الرئيس الأمريكي الحالي. تصوره صاعداً بصعوبة على سلم طائرته ذي الدرجات العديدة، أو تصوره يمشي منفعلاً أو مترنحاً، أو تصوره يلقي بكلمة سياسية شديدة الأهمية وإن سريعة وقصيرة. تصوره في الأولى متردداً في اختيار الدرجة اللازمة ليصعد، وتصوره في الثانية ضائعاً، فقد نسي موقع الباب الذي دخل منه، وتصوره في الثالثة متلعثماً أو واصفاً رئيس دولة حليفة بما ليس فيه أو بما لا يناسبه.
*ثانياً: لا أذكر أنني كنت يوماً في حياتي الطويلة شاهداً على دولة صغيرة فعلت بنفسها وبالعالم كله ما فعلته إسرائيل خلال مئة وخمسة وأربعين يوماً. حاولت إسرائيل ومن خلال هذه الحرب أن تقول للعالم إنها فوق الجميع. ألقت عليهم، عرباً ومسلمين وغرباء، درساً في مادة العلاقات الدولية الحديثة، ودرساً آخر في مادة توازن القوة العالمي، ودرسا ثالثاً في مادة الأديان المقارنة، وبخاصة ما تعلق بأسطورة الشعوب المختارة، ودرساً رابعاً في مادة الابتزاز المتبادل بين دولة عظمى ودولة صغرى. فرضت من جديد &"القضية اليهودية&" ونجحت في هذا الفرض.
منذ نشأتها، وقفت إسرائيل مرات عديدة ضد العالم، آخرها الإعلان الصريح من موقع فريد للقوة، موقع التهديد بإبادة الفلسطينيين جميعاً بالتهجير أو القتل، عن قرار رسمي وشعبي برفض حل الدولتين وسيلة لتحقيق السلام. لن تكون هناك دولة فلسطينية طالما بقيت هناك دولة لبني إسرائيل على الأرض الموعودة، وليذهب العالم إلى الجحيم، فجميعه، حسب أصول العقيدة الدينية، معاد للسامية وفي باطنه عداء مستتر لدولة إسرائيل.
*ثالثاً: لم أرتح كثيراً للموقف البارد نسبياً لكل من روسيا والصين من الحرب ضد الفلسطينيين، ولكنني أتفهمه. بالموقف البارد أقصد الدعم السياسي والإعلامي الروسي والصيني للفلسطينيين من دون صخب أو تعهدات والتزامات عسكرية.
بمرور الوقت واستمرار حرب الإبادة بلا هوادة، كان لا بد لكل من الصين وروسيا الانتباه إلى أن استراتيجية الاعتماد على مكاسب للصين تتحصل عليها من خسائر لأمريكا من وراء استمرارها دعم حرب الإبادة الناشبة ضد الفلسطينيين لم يعد مجزياً. تقارير وراء تقارير راحت تؤكد الاتساع المتوالي للخرق في نسيج العلاقات الأمريكية بدول عالم الجنوب نتيجة موقفها الداعم لإسرائيل.
نقرأ الآن عن أسطول صيني يحمل رقم 46 خصصته بكين لمنطقة البحر الأحمر على ضوء تمدد حرب غزة نحو جنوب البحر الأحمر. في الوقت نفسه وربما لأسباب أكثر تنوعاً شكلت موسكو جيشاً يتخصص في شؤون إفريقيا المرشحة لعدم استقرار وغليان أشد ضد الاستعمار الغربي المستحكم في القارة. من جانب آخر، صارت اتفاقية تركيا مع أرض الصومال تشكل مادة استراتيجية يشترك في الاهتمام بها روسيا والصين وحلف الأطلسي، بالإضافة إلى اهتمام خجول ولكن متصاعد من جانب دول عربية متشاطئة للبحر الأحمر أو قريبة منه ومتوجسة شراً.
تلك كانت نزراً قليلة من كثير من علامات حاضر دولي وشرق أوسطي وآسيوي وإفريقي، حاضر ممتد في المستقبل، ساهمت في صنعه وتهذيبه خطة حرب إبادة إسرائيلية بدعم أمريكي.