جريدة الجرائد

هل تخضع أوروبا لثورة المزارعين؟

تعود جذور المشكلة إلى سياسات قصيرة النظر انتهجتها الحكومات خلال العقود الماضية
قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

‏أخيراً، خضعت أوروبا لثورة المزارعين، على أبواب الانتخابات القريبة للبرلمان الأوروبي. ولم يكُن الدافع الرئيسي لهذه الاستدارة وضع حدّ لرمي روث الأبقار ‏وحرق الأعلاف على أبواب مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل، بل الخوف من تمدُّد اليمين المتطرّف. فقبل موعد انتخابها لدورة ثانية هذا الأسبوع، سحبت رئيسة المفوّضية أورسولا فون دير لاين مشروع قانون لخفض استخدام المبيدات الكيميائية إلى النصف بحلول 2030، مع التعهُّد باستمرار المشاورات حوله. وهي بذلك أراحت البرلمان الأوروبي من الإحراج، وسهَّلت عملية إعادة انتخابها. وعلى وقع مظاهرات المزارعين ودخان حرائق الاعتراض التي أشعلوها في أكثر من عاصمة، أقرّ البرلمان بداية هذا الأسبوع نسخة مخففة من قانون &"استعادة الطبيعة&"، الذي يفرض إعادة تأهيل 20 في المائة من المواقع والأنظمة الطبيعية وجعلها مناطق محمية قبل نهاية العقد الحالي.

‏خفض المبيدات الكيميائية واستعادة الطبيعة كانا في صلب الشقّ الزراعي من &"الصفقة الخضراء&"، التي أطلقها الاتحاد الأوروبي عام 2019. وتهدف الاستراتيجية الزراعية في &"الصفقة&" إلى بناء قطاع زراعي محايد كربونياً بحلول 2050، وجعل الزراعة وإنتاج الغذاء أكثر صداقة للبيئة في جميع المراحل، تحت شعار &"من المزرعة إلى طاولة الطعام&"، مع حماية الأنظمة الطبيعية والحفاظ على التنوُّع البيولوجي.

‏ولا ينحصر الهدف من التراجع في نزع فتيل التفجير الذي أشعلته الاعتراضات في الشارع ضد ارتفاع أسعار المحروقات، والتدابير البيئية المشدَّدة التي عدّها البعض مُرهِقة ومُعرقِلةً للاقتصاد، والأصناف الزراعية الرخيصة المستوردة التي تنافس الإنتاج المحلي. فهذه الاستدارة، في جوهرها، تعبيرٌ عن قلق متزايد من صعود إضافي لليمين المتطرّف قبل الانتخابات الأوروبية في يونيو (حزيران) المقبل.

‏والواقع أن الأحزاب اليمينية المتطرّفة، التي تشكّك في جدوى سياسات الاتحاد الأوروبي ويذهب بعضها إلى المطالبة بالخروج منه، تتقدّم اليوم في 8 دُوَل من 27 دولة عضواً في الاتحاد. ومن الطبيعي أن يجد مريدو الاتّحاد في هذا تطوُّراً مرعباً، تَحقّق بسبب استغلال اليمين الضغط الذي يسبّبه تدفّق المهاجرين على الاقتصاد والمجتمعات المحلّية، وتأثير معدلات التضخُّم المرتفعة على حياة الناس. فقد ركّزت الخطب الشعبوية وبرامج الأحزاب اليمينية على تحميل المسؤولية للسلطات الوطنية وهيئات الاتحاد الأوروبي عامّة. وهي وجدت آذاناً صاغية، خاصة مع تمدُّد ملايين المهاجرين وطالبي اللجوء خارج المدن الكبرى، ليصبحوا أكثرية في بعض البلدات الصغيرة، مهدّدين نسيجها الاجتماعي.

&"ثورة المزارعين&" وصلت إلى الذروة مع ظهور حركة &"مزارعون - مواطنون&" في هولندا، التي بدأت باحتجاجات على استخدام الأمونيا في الأسمدة الزراعية؛ ‏لأنها تتسبب بانبعاثات النيتروجين، أحد أقوى غازات الاحتباس الحراري. ‏وما لبثت حركة الاحتجاج أن تحوّلت إلى قوّة سياسية كبرى، انتزعت مقاعد كثيرة في المجالس المحلية والبرلمان، وتحالفت مع أحزاب اليمين المتطرّفة، كما توسعت إلى دول عدة، ليس آخرها فرنسا وألمانيا. وهنا نفهم لماذا دقّ ناقوس الخطر؛ فالمزارعون كانوا تاريخياً من مؤيدي أحزاب الوسط، وتحوُّلُهم إلى اليمين المتطرّف شكّل انقلاباً في التوازنات.

‏وتعود جذور المشكلة إلى سياسات قصيرة النظر انتهجتها الحكومات خلال العقود الماضية؛ إذ شجَّعت قيام المزارع الكبرى والتوسُّع في بعض المنتجات، بما فيها المواشي، مع تسهيلات في التمويل والتركيز على التصدير. ومن اللافت أن المساحات الشاسعة التي خُصِّصَت لزراعة الأعلاف الضرورية لإنتاج اللحوم، ومعظمها مُعَدٌّ للتصدير، حلَّت مكان زراعات مغذية للبشر، مثل القمح والبطاطا، مما اضطُرَّ دولاً منتجة لهذه المزروعات تاريخياً إلى استيرادها للاستهلاك المحلي. وعندما عمدت الائتلافات الحكومية نفسها لاحقاً إلى وضع سياسات معاكسة تفرض قيوداً على بعض المنتجات، عدّ المزارعون هذا انقلاباً يعرّض استثماراتهم للخطر.

قد ‏تُوقِف مراضاةُ المزارعين إغلاقَ الطرقات وحرق أكوام القش والأعلاف خارج المقرات الحكومية كما في عقر دار الاتحاد الأوروبي في بروكسل نفسها، لكن المشكلة لن تنتهي هنا. فالمطلوب تسويات واقعية تحفظ حقوق الناس والطبيعة، بدلاً من تمييز فئة محددة على حساب الآخرين. والمطلوب أيضاً سياسات بعيدة النظر، لا تتبدّل وفق الظروف.

‏في مقابل الاستدارة في السياسات البيئية، لم تتوقف الإنجازات العلمية. فقد اختارت وكالة الفضاء الأوروبية نظام الأقمار الاصطناعية &"تانغو&" لمراقبة انبعاثات الغازات المسبّبة للاحتباس الحراري من مصادرها، خصوصاً الميثان وثاني أكسيد الكربون. وهذا نظام قادر على قياس الانبعاثات من محطات إنتاج الكهرباء، ومناجم الفحم، وحقول البترول والغاز، والمصانع، والمزارع، ومكبّات النفايات، وصولاً إلى المداخن في البيوت، بدقة غير مسبوقة. وسيتيح استخدامه مراقبة الالتزام بالأنظمة والمعايير التي تحكم الانبعاثات، بهدف إعطاء الدعم والإعفاءات أو فرض العقوبات وفقاً للنتائج، والحدّ من التزوير.

‏لقد أمكن تطوير هذا النظام المبتكر بالتعاون بين جامعات ومراكز أبحاث علمية وصناعية، وبدعم من وزارات الاقتصاد والمناخ والتربية. واعتماداً على تقنيات الذكاء الاصطناعي، سيصبح ممكناً استخدامه للتنبؤ بنوعية الهواء وتغيُّر المناخ، للمساعدة في اتخاذ تدابير استباقية، بناءً على جمع بيانات الأقمار الاصطناعية الدقيقة وربطها وتحليلها.

‏في المجتمعات الحيّة، العِلم لا يتوقّف حين تخفق السياسة. لكن المطلوب أن يوصل العلماء نتائج أبحاثهم بطريقة مفهومة إلى جميع فئات المجتمع، فيعرف المسؤولون الحكوميون، والناس عامة، ومنهم المزارعون، المخاطر والمحاذير والبدائل، ليقرروا السياسات العامة على أساسها. الحوار الذي يوازن بين حقائق العلم ووقائع الاقتصاد وحياة الناس وحده قادر على اجتراح تسويات متوازنة لا تخضع للشعبوية.

* الأمين العام للمنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد) ورئيس تحرير مجلة &"البيئة والتنمية&"

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف