في انتظار المشهد الأخير
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
الحرب على غزة تركت بصمات سوداء على جسد خرائط العالم، التضخم الاقتصادي بلغ مداه في جميع قارات العالم، سلاسل الإمداد باتت تعاني من نقص حاد، الانقسامات الجيوسياسية أصبحت محور التحركات بين التحالفات المختلفة. النتائج الحالية لهذه الجولة من الحرب خارج حساب التوقعات، الرهانات الصفرية تحكم حسابات الجميع.
تفاصيل الحرب على غزة هذه المرة جاءت محملة ومشحونة بأبعاد مغايرة في توقيت مختلف في المنطقة والإقليم. إسرائيل تعاملت في هذه الحرب وفق تصورات قديمة، ظنت أن عقارب ساعة العالم ستتوقف أمام مزاجها الاستراتيجي، لكن الواقع كان صادماً لها، فقواعد اللعبة تغيرت، وبيادق الشطرنج لم تعد تتحرك بشكلها التقليدي.
مشاهد تفرض نفسها على عالم جديد يتشكل وفق مفهوم مختلف لموازين القوى، فمفهوم القوى ليس بحجم وإمكانية السلاح فقط، وإنما هناك عوامل مختلفة تختلط بالمكان والزمان والتاريخ والثقافة، بل بدورة الحضارة ذاتها.
إسرائيل الآن ليست تلك الطبعة التي عرفناها بتوقيع ديفيد بن جوريون وشركائه من الآباء المؤسسين. أيضاً الفلسطينيون اليوم ليسوا هم الذين واجهوا العصابات الصهيونية في حرب 1948، وما بعدها، بل نحن أمام طبعات غير تقليدية من سجل هؤلاء الفلسطينيين، فقد تعلموا الدرس إلى حد ما، وعرفوا قواعد اللعبة، برغم الانقسامات والفرقة والاختلافات، فما بالنا لو أنهم أصبحوا من دون خلافات، وتحت قيادة واحدة تتخذ قرارات الحرب والسلام بمعزل عن اختطاف القرار الفلسطيني.
من دون شك لو تحقق ذلك سنجد نسخة فلسطينية جديدة، ستفرض أوراقها على إسرائيل والنظام الدولي، ومن ثم فإن الوصول إلى الغاية العظيمة يحتاج إلى عقول ثاقبة وقلوب شجاعة.
ما بين الاختلاف بين الطبعتين الفلسطينية والإسرائيلية، جرت تحت الجسر مياه كثيرة، فحرب السابع من أكتوبر عام 2023 باتت من دون مبالغة نقطة فاصلة في إعادة ترتيب النظام العالمي، فقد تداخلت الأوراق، وتشابكت المصالح من مساحة الانحياز السافر لإسرائيل في بداية الحرب إلى التلويح بالغضب من سياسات مهندس الحرب بنيامين نتنياهو، بل وصل الأمر إلى أن الدولة العظمى الحاضنة تاريخياً لإسرائيل، راحت تبحث عن مخرج آمن من المستنقع السياسي العالمي الذي ورطتها فيه تل أبيب، من خلال استخدامها المفرط لحق النقض &"الفيتو&" في مجلس الأمن ضد كل محاولات إيقاف الحرب.
فضلاً عن أن دول الاتحاد الأوروبي الداعم الثاني لإسرائيل، بدأت التفكير بصوت عال في تغيير مواقفها الاستراتيجية حول الاعتراف بدولة فلسطينية تحت الاحتلال، بغض النظر عن المفاوضات الثنائية بين إسرائيل وفلسطين، وهو متغير عميق الدلالة، فإذا ما تحقق هذا الأمر، وتم منح فلسطين العضوية الكاملة في الأمم المتحدة، فإن تغييراً كبيراً سيجري في بنية النظام الدولي.
هذه التداعيات لحرب السابع من أكتوبر قادت إلى إنهاك العالم، فجعلته يغير من رؤاه الثابتة التي اعتنقها طويلاً حول هذا الصراع، بعد أن وجد العالم نفسه في حالة سيولة سياسية واقتصادية واجتماعية وصدام بين الشرق والغرب، وصعود لفكرة صراع الحضارات والأديان والمذاهب، وهذا أمر كان يرفضه الغرب تماماً في أدبياته السياسية.
لكن الحرب على غزة فتحت أبواب الجحيم التي حاول الغرب أن يتخلص منها، فضلاً عن أن إطالة أمد الحرب بهذه الضراوة، أفضت إلى استنزاف المصالح الغربية الاستراتيجية، ودفعها إلى التخوف من شطب الدور الغربي من المسرح الدولي، في ظل صعود متنام لقوى أخرى مثل الصين وروسيا والهند، وهذا ما يخشاه الغرب بقيادة واشنطن.
إذن في ظل هذه التعقيدات في المشاهد العالمية جراء تلك الحرب، ومعاناة الجميع، والتغير الضاغط والملح في قواعد الحرب والسلام، وليونة الخرائط في ترتيب المصالح، فإن لسان حال العالم يسابق الزمن في انتظار المشهد الأخير لهذه الحرب.