الدين والمجتمع
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
كل تفكيرٍ في الدّين يستدعي، حكماً، التّفكيرَ في المجتمع بما هو حاضنته وميدان تَجلّيه. صحيح أنّ الدين ظاهرةٌ روحيّة تَقْبَل التّفكير فيها من زاوية ما هي تعبيرٌ عن منظومةٍ من النّصوص والتّعاليم - سواء كانت كتابيّة توحيديّة أو كانت اعتقاديّة غير توحيديّة-؛ ومن زاوية كونه يمثّل نمطاً من المعرفة يختلف عن نمط التّفكير الفلسفيّ أو العلميّ أو الأسطوريّ. وفي هذه الحال يجوز حسبانه ظاهرةً فكريّة، أي تقْبَل البحث فيها فكريّاً. وصحيح، أيضاً، أنّ الدّين ظاهرةٌ اقترنت بالفرد، دائماً، فتجسَّدت في فعل الإيمان بالمطلق (كما في حالة الأديان التّوحيديّة الثّلاثة) أو بفكرةٍ عليا أخلاقيّة (كما في الكثير من الأديان الآسيويّة). وهو فعْلٌ فرديّ بامتياز حيث مبْنى فرديّته على مخاطبة النّصِّ الدّينيّ للفرد، وحيث الجزاء - ثواباً وعقاباً - يقع على أفراد لا على كيانات جماعيّة. ولكنّه من الصّحيح، كذلك، أنّ الدّين ظاهرة اجتماعيّة بمثل ما هي فرديّة، وتبادليّة مثلما هي إيمانيّة، وأنّ الاجتماعيّ فيها - أو المجتمعي - بُعْدٌ غير منفصلٍ أَلْبَتَّة، عن بنية الدّين منظوراً إليه، هنا، من زاوية كونه رسالة تخاطِب جماعة اجتماعيّة مّا وتدعوها إلى الصّيرورة جماعةً اعتقاديّة تعتنقها كرسالة.
عندما يكون الاقتران قويّاً بين الدّين والمجتمع، كما هي حاله فعلاً في تاريخ المجتمعات، لا يعود ثمّة من مبرّرٍ للتساؤل عن مدى آثاره في الحياة الاجتماعيّة لمجتمعٍ ما، من جهة، ولا للتّساؤل عن مقدار ما قد يفرضه المجتمع من صُوَر ما لتطوّر الظّاهرة الدّينيّة فيه، من جهة أخرى؛ إذْ هُما معاً في الأثر متضافران وإنِ اختلفتِ الدّرجات والحدودُ التي يبلغها هذا وذاك في تأثيراته. لَنُشِر، سريعاً، إلى وجوه من ذينك الأثريْن المتبادَلين.
يدخل الدّين، في أيّ مجتمعٍ، في تكوين الكثير من عقائد ذلك المجتمع وقيمه ونُظُمه ومؤسّساته وقواعد الحياة والسّلوك فيه. إنّ تعاليمه، وإنْ هي خاطبتِ المخاطَبين كأفراد، تنتقل من الأفراد إلى المجموع الاجتماعي أو إلى جماعاتٍ بعينها في المجتمع فتتحوّل إلى جزءٍ رئيسي من موجِّهات سلوكها الاجتماعيّ، أو إلى منظومةٍ مرجعيّة تُشْتَق منها القيمُ الاجتماعيّة وتوضع في ضوئها قواعدُ الفعل الاجتماعيّ.
إلى ذلك يدخل الدّين في تكوين الثّقافة في المجتمع: ثقافة الجمهور وثقافة النّخب على السّواء، وفي تشكيل النّظام الأخلاقيّ والقيميّ، ناهيك عن نظام التّشريع. وقد يمتدّ تأثير الرّمز الدّينيّ في المجتمع إلى المجال الأنثروپولوجيّ؛ حيث تخضع طقوس الميلاد والموت والزّواج والأفراح والاحتفال والأكل واللّباس... لِمَا يُعتقَد أنه من صميم التّعليم الدّيني أو من تقليدِ سلفٍ ينبغي احتذاؤُهم فيه، ثمّ لا تلبث أن تكتسيَ صبغةً دينيّة مع الزّمن. بل إنّ مدى تأثير الدّين في المجتمع قد يصير أبعد في الحالات التي يكون فيها وراء تكوين نظمٍ ومؤسّسات. هذه، مثلاً، حال مؤسّسات دينيّة - اجتماعيّة، في مجتمعات عدّة، مثل الكنيسة والكهنوت الدّينيّ في المسيحيّة، أو المؤسّسة الفقهائيّة في الإسلام؛ وحالُ نُظُم اجتماعية.
في المقابل، ليس عسيراً على الباحث في المسألة أن يلاحظ كيف يتسرّب سلطانُ المجتمع وحاجاتُه وعوائده ومصالحه إلى الدّين في وجهيْن منه: الاعتقاديّ والسّلوكيّ. بيان ذلك أنّ المخزون الاجتماعيّ - من مواريثَ ثقافيّة ومواردَ قيميّة وعوائد - لأيّ مجتمع يترك مقادير ما من الأثر في نظرة الجماعة المؤمنة إلى أمور دينها، وفي اعتقادها بما هو صحيح يُدْرَج عليه وما هو في حكم المظنون. وقد يبلغ الأثرُ حدّاً يختلط فيه ما هو دينيّ بما هو اجتماعيّ، من شدّة أثرِ الثّاني في الأوّل، أو تقضي فيه مصلحة اجتماعيّة بالنّظر إليها بوصفها واجباً دينيّاً.
في الأحوال كافّة، كثيراً ما نجحت مذاهب في الدّين أو مدارس في الفكر الدّينيّ في أن تستوطن بلداناً أو مناطق وأن تستقرّ فيها لمجرّد أنّ أئمّتها أو رجالاتها المؤصِّلين إلى علومها حافظوا على عوائد إقليمهم واستدخلوا أعرافه في التّشريع، ويمكن ملاحظة ذلك، بكثيرٍ من اليُسر، من قراءة خريطة توزيع المذاهب الدّينيّة في المسيحيّة والإسلام، وفي جملتها مذاهب الفقه الإسلاميّ.
على أنّ أَمْداء هذا الأثر المتبادَل (للدّين في المجتمع وللمجتمع في الدّين) تتفاوت تبعاً لخريطة العلاقة بينهما وجغرافيّتِها في المكان. إنّها في حالة المجتمع الواحد الذي يَدِين بدينٍ واحد غيرُها في مجتمعٍ متعدّد الأديان؛ حيث يُصبح الأثر محدوداً أكثر (على الأقلّ من جهة الدّين). كما أنّها في حالة الدّين المحصور في نطاق مجتمعٍ واحد غيرُها في حالة الدّين العابر للحدود والأوطان، مثل المسيحيّة والإسلام، أو مثل الهندوسيّة والبوذيّة؛ إذ حيثما فاضت حدودُ الدّين عن حدود المجتمعات، كان الأثرُ المتبادَل أشدَّ غنىً لاتّساع نطاقِ قاعدته الأنثروبو-ثقافيّة.