روسيا والغرب.. الهوية والتوجه
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
بينما تجري الانتخابات الرئاسية في روسيا، يتجدد السؤال حول علاقة هذا البلد الشاسع العريق مع الغرب من حيث الهوية والموقع والتوجه. وليس من شأننا هنا العودة إلى العوامل التاريخية البعيدة التي تحيل إلى انقسام الكنيسة المسيحية المبكر في القرن الحادي عشر الميلادي بين جناحين كاثوليكي أرثوذوكسي، ولا إلى الصرع الفكري والأيديولوجي الذي انبثق منذ القرنين السابع عشر والثامن عشر بين الاتجاهين التغريبي والتأصيلي المحلي بخصوص الخيارات التحديثية والإصلاحية في روسيا.
ما نريد أن نتحدث عنه اليوم هو تجدد إشكالية العلاقة مع الغرب في روسيا الحالية التي يقودها الرئيس بوتين منذ قرابة ربع قرن. وفي هذا السياق نشير إلى المقالة الهامة المنشورة تحت عنوان &"الغرب لم يعد نموذجاً&"، التي كتبها مؤخراً &"أندريه تزيغانكوف&" أستاذ العلاقات الدولية في جامعة سان فرانسيسكو في مجلة &"روسيا في السياسة الشاملة RUSSIA V GLOBALNOI POLITIKE، وفيها يبين أن التيار الموالي للغرب في روسيا هو حالياً في طور الاضمحلال والاختفاء.
في هذه المقالة يبيّن الكاتبُ أنه منذ عصر بيار الكبير كان الاعتقاد سائداً لدى النخب الروسية أنه بإمكان البلاد الاستفادة من مكاسب التطور والتحديث الغربية دون أن تفقد هويتَها وأصالتَها. ولعل الاستثناء الوحيد كان خلال المرحلة السوفييتية حيث كان لروسيا مشروعها الفكري والأيديولوجي الخاص بها وتصورها المميز للحضارة الكونية. بعد انهيار التجربة الشيوعية، برز اتجاهان تغريبيان، أحدهما ليبرالي معتدل، وثانيهما راديكالي يتبنى استنساخ النموذج الغربي بكامل تفصيلاته.
كان الإصلاحيون في آخر العهد السوفييتي من أمثال ميخائيل غورباتشوف ليبراليين معتدلين، مؤمنين بإمكانية الانفتاح على الغرب والاستفادة من نجاحاته وفق شروط ملائمة لروسيا. بيد أن الليبراليين الراديكاليين استولوا على مقاليد الأمر في حقبة بوريس يلتسين، وهم في أغلبهم من المنشقين عن النظام السوفييتي، وقد استطاعوا فرض قرارات صارمة من قبيل تحريم الحزب الشيوعي وتفكيك الإمبراطورية الحمراء.. وذهبوا إلى حد تعريض وحدة البلاد وسيادتها للخطر الحقيقي.
واعتبر الكاتب أن كلا الجناحين، التغريبي المعتدل والراديكالي، فشلا في توجهاتهما السياسية. ففي حين أخفق التيار المعتدل نتيجة لخيارات الغرب نفسه الذي رفض دمجَ روسيا في قلب منظومته، فشل التيار الراديكالي الذي لم تكن له استراتيجية متناسقة وواضحة لإصلاح الدولة. ويري الكاتب أن مأزق الإصلاحات السياسية في روسيا ليس متولداً عن عوامل ثقافية ومجتمعية ذاتية، بل سببه هو أن الغرب أراد أن تنصاع روسيا لقيمه مع احتفاظه بالتفوق والسيطرة. لقد واجهت إصلاحات بوتين ومدفديف رفضاً حاسماً من الغرب الذي انحاز إلى الأنظمة المعادية لروسيا في جورجيا وأوكرانيا، ولم يعد من الممكن اليوم الاستمرار في سياسة الانفتاح على الغرب بالنظر إلى قرارات العقوبة والمقاطعة المفروضة على موسكو. وهكذا يخلص الكاتب إلى أن الاتجاه التغريبي أضحى اليوم هامشياً في روسيا، نتيجةً للآثار السلبية لسياسات الدول الغربية إزاء روسيا، وتراجع الحماس للقيم الغربية في سياق يطبعه صعود التصورات المحافظة والشعبوية والانعزالية التي هي في تناقض جوهري مع الأفكار والمرجعيات الليبرالية.
في أحسن الأحوال، ستصبح الحضارة الغربية مجرد منظومة قيمية ومجتمعية محدودة من بين منظومات حضارية عديدة في العالم، بما قد ينجم عنه تجاوز &"حرب الثقافات&" الحالية من خلال توافق جديد بين الليبراليين المعتدلين والمحافظين المعتدلين، حفاظاً على المبادئ الأساسية للحضارة الغربية. ذلك هو المطلوب في أميركا وأوروبا، وقد يواكبه في الاتجاه نفسه اتجاه غربي جديد في روسيا على أساس قومي ليبرالي يراعي خصوصيات ومصالح هذه الدولة الكبرى وحقوقها التاريخية التي لا يمكن للنظريات الغربية التقليدية أن تستوعبها.
لا شك في أن مقولة تزيغانكوف تبين لنا العمق الحقيقي للصراع الروسي الغربي الحالي، الذي لا يمكن اختزاله في الموضوعات الاستراتيجية والنزاعات الديبلوماسية، بل له جذوره الثقافية والمجتمعية البعيدة التي تحيل إلى تجربة التحديث والبناء السياسي في روسيا في علاقتها بمحيطها الأوروبي ومصالحها العالمية الشاملة. ما نستنتجه من أطروحة تزيغانكوف هو أن الموضوع الأوكراني الذي يكثر الحديث عنه حالياً هو المؤشر البارز على صدام ثقافي وجيوسياسي عميق داخل المنظومة الغربية نفسها الذي تنتمي إليها روسيا بمعنى ما، وبالتالي فإن جوهر المشكل يتصل بمفهوم الغرب ذاته من حيث محدداته الحضارية والمجتمعية. ومن هذا المنظور تكون المسألة الروسية حاسمة ومحدِّدة في تحول النموذج الغربي نفسه.